رئيس التحرير
عصام كامل

فتنة لويس عوض مع اللغة العربية

فيتو

قد تتعدد الأزمات التي لازمت الدكتور لويس عوض في فترات كثيرة من حياته، بداية من فصله مع عدد كبير من أساتذة الجامعات في سبتمبر 1954 على خلفية دفاعه عن الديمقراطية، في أزمة مارس من نفس العام، واعتقاله ستة عشر شهرا من مارس 1959 إلى يوليو 1960 بتهمة الشيوعية لأنه يرفض النظم الشمولية، إيمانا بالحرية والعدالة الاجتماعية، ثم وقف برنامجه التليفزيونى في الستينات بعد أكثر من خمس سنوات من تقديمه، ومنع دعوته للحديث في الإذاعة والتليفزيون، لكن تبقى مصادرة كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية" عام 1981 أكبر الأزمات.


من ضمن العديد من مؤلفات المفكر والمؤرخ لويس عوض التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والعلمية المصرية يبرز كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية"، فكان وراء اتهامه بأنه يهدف إلى تزوير اللغة العربية والتهجم على الإسلام، لينتهى الأمر بصدور قرار بسحب الكتاب من السوق المصرية بعد نشره.

يرى البعض أن كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" موسوعة فكرية ولغوية ضخمة، واختراق قوى لعوامل العزلة والجمود التي تفصلنا عن عهود ازدهار الفكر والحضارة العربية، ومع ذلك حين خرج للنور لأول مرة في مطلع ثمانينات القرن الماضى أحدث ضجة شديدة، ليس لما فيه من علم أو فكر، لكن لأنه يهاجم الثوابت الإسلامية بطريقة غير مباشرة، لاسيما فيما يتعلق بأصل العرب ولغتهم، لتأتى توصية الأزهر الشريف سريعا بمصادرة الكتاب.

قبل ٣٣ عامًا صدم كتاب الراحل الدكتور لويس عوض المؤمنين بقداسة اللغة العربية وأزليتها والمعتقدين بنقاء لغة القرآن من أي لفظ غير عربي، وهز كثيرا من هذه الثوابت قائلا " إن العربية وهى لغة حديثة مقارنة بغيرها لم تكن لغة آدم ولم تكن مسطورة في اللوح المحفوظ".

يقول عوض عن كتابه هذا "هناك في الكتاب منهج وهناك قضايا، أما المنهج فهو باختصار شديد ضرورة امتحان اللغة العربية بتطبيق كل قوانين الفونوطيقيا (علم الصوتيات) والمورفولوجيا (علم الصرف أو علم صور الكلمات) وقوانين الايتمولوجيا (قوانين الاشتقاق) وقد فرغ علماء اللغة في أوربا من كل هذه العلوم في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين من إرساء قواعدها بحيث أن أي دارس للفيلولوجيا أي فقه اللغة يجب أن يكون مسلحا منذ البداية بهذه القوانين والقواعد".

وكان هدف المؤلف ومنهجه في كتابه وفقا لما قاله " وأنا لا أطالب إلا بتطبيق هذه القوانين على اللغة العربية بعقل مفتوح حتى نستطيع أن نهتدى إلى ما بين لهجاتها من صلات، وما بين مفرداتها ومفردات اللغات الأخرى من علاقة والى الوشائج التي تربط النحو العربى بالنحو في مجموعات اللغات الأخرى".

فالكتاب يمهد الطريق -بحسب المؤلف- لوضع أسس وقواعد لدراسة فقه اللغة العربية، بما يتماشى مع المناهج العلمية الحديثة التي تربط بين هذه المناهج والأنثروبولوجيا الاجتماعية، فالاعتماد على الفيلولوجيا والأنثروبولوجيا الطبيعية والفونوطيقيا وحدها غير كاف لوضع أسس علم تاريخ اللغات وتحديد علاقته بتاريخ الاجناس، فينبغى الاهتداء بالإثنولوجيا أو ما يسمى بـ "الأنثروبولوجيا الاجتماعية" التي تمتد فتشمل الأديان والأساطير المقارنة والفلكلور المقارن والنظم والعادات والتقاليد المقارنة، لأن الاستعانة بها يمكن أن يساعد على تحدديد الحالات التي يتطابق فيها توزيع الجنس مع توزيع اللغات.

وطرحت دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة طبعة جديدة من الكتاب في 680 صفحة كبيرة القطع، تتضمن مقدمة تقع في 22 صفحة بعنوان (الكتاب والقضية) لنسيم مجلي، فالكتاب هو "مقدمة في فقه اللغة العربية" والقضية هي "حرية التفكير والتعبير في مصر "، حيث وصف الكتاب بأنه موسوعة فكرية ولغوية، مشيرا إلى أنه كان ممنوعا في مصر منذ ربع قرن في حين يباع علنا في دول عربية.
في 6 سبتمبر من العام 1981 الذي شهد إصدار كتاب" مقدمة في فقه اللغة العربية "عن الهيئة العامة للكتاب في مطلعه، أرسل مجمع البحوث الإسلامية مذكرة إلى مباحث أمن الدولة تطالب بالتحفظ على الكتاب ومساءلة مؤلفه، ليأتى الرد للهيئة بمنع الكتاب لحين الفصل في أمره بمعرفة قاضى الأمور المستعجلة.

وفى ديسمبر تحددت جلسة أمام محكمة جنوب القاهرة، ودفع أحمد شوقى الخطيب، محامى لويس عوض، بأن هذه قضية لغوية تحتاج لتحكيم مجمع اللغة العربية لا إلى مجمع البحوث الإسلامية، واستجابت المحكمة وشكلت لجنة من الدكتور توفيق الطويل وأحمد حسن الباقورى وعبد الرحمن الشرقاوي، ولكن الأزهر رفض هذه اللجنة، وقال الشيخ عبد المهيمن الفقى سكرتير مجمع البحوث الإسلامية إنه جهة الاختصاص، ليمتثل القاضى في النهاية، فقد كانت ظروف القضية إحدى بؤر التوتر التي تمر بالبلاد بعد اغتيال السادات، بما يستلزم بعض المواءمات على حساب حرية البحث العلمى وحق الاجتهاد.

وحكمت المحكمة بمصادرة الكتاب وتزامن قرار المصادرة مع سريان شائعة تنطوى على سخف الافتراء بحق مفكر مصرى شديد الصلابة في دفاعه عن رأيه وحقه في البحث العلمي، مفادها أن الدكتور لويس لم يكتب من كتاب " فقه اللغة العربية " إلا مقدمته، وأن كاتبه الأب جورج قنواتى ومجموعة باحثين من الكاتدرائية.
القضية التي أثارها الدكتور لويس عوض تفترض أن اللغة العربية كغيرها من كل لغات العالم مكونة من طبقات شبيهة بالطبقات الجيولوجية، والتي اندمجت وتكاملت مع نفسها وانصهرت في هذه البوتقة وخرجت منها هذه اللغة التي نسميها "العربية".
والعرب أنفسهم كان لديهم إحساس غامض بما كان سلفهم يسمونها بالجاهلية الأولى وينسبونها إلى آل جرهم.

والرأى السائد بين علماء اللغة لاسيما منذ "فاندريس"، أنه ليست هناك لغة تحل من الفراغ، فكل شعب يعطى لغته لشعب آخر إنما يعطيه هذه اللغة مع امتصاص بقايا اللغة الأصلية التي يتكلمها هذا الشعب.

وانتهى «عوض» في كتابه إلى أن فقه اللغة العربية قد مضى في منطق علمى إلى وقوع المعركة بين السنة والأنبياء من جهة، وبين المعتزلة من جهة أخرى، وهى المعركة المعروفة بقدم القرآن، كما قال الفريق الأول، وخلق القرآن كما قال الفريق الثاني ولأن المعتزلة يقولون ذلك فقد قالوا أيضًا أن اللغة العربية مخلوقة وفارق كبير بين تقديس اللغة العربية لدى القائلين بقدمها، وبشرية اللغة عند القائلين بخلقها، وقد انبنى على القول بقدم اللغة العربية في اللوح المحفوظ، والعقل باستجابة أن تكون هناك وبنتائج بينها وبين أي لغة أخرى من لغات العالم. وأن هذه اللغات قد أخذت منها وليس العكس، وخلص الكاتب إلى أن هذا غير ثابت علميًا.

رأي المراقبون أن المؤلف ومؤلفه تعرضا للغبن لعدة أسباب، أولها عدم أحقية مجمع البحوث الإسلامية في طلب مصادرة كتاب ؛ فالقانون رقم 103 لسنة 1967 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975، لا يعطى الأزهر بكل هيئاته أي حق في طلب مصادرة أي كتاب أو عمل فني، وكل ما لمجمع البحوث الإسلامية ـ إحدى هيئات الأزهر ـ طبقا للفقرة 7 من المادة رقم 17 من اللائحة التنفيذية هو " تتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامى من بحوث ودراسات في الداخل والخارج للانتفاع بها وبما فيها من رأى صحيح أو مواجهتها بالتصحيح والرد "، أي أن الكتاب يرد عليه بكتاب، والبحث يفند ببحث، والمقال يناقش بمقال.
وكانت أسباب المحكمة قاصرة عندما رضخت لإرادة ممثل مجمع البحوث الإسلامية بما جعل منه خصما وحكمًا ينفرد بكتابة تقرير المصادرة، أي أن المحكمة أسندت مهمة خبراء وزارة العدل إلى الخصم.

كما أن محامى دكتور لويس عوض تحت إرهاب جنرالات التطرف آثر السلامة فلم يستأنف الحكم.
غير أن مصادرة كتاب "مقدمة في فقة اللغة العربية" لاقت اعتراضات من غير مفكر، حيث قال الأديب والروائى يوسف القعيد في اعتراضه "هذا أسلوب عفا عليه الزمن وخيبة من خيبات مصر الكبرى التي يجب أن نشفى منها بأسرع ما يمكن، ومنعه مأساة متكاملة وعيب، ويؤثر على المدى القريب والبعيد على مكانة ودور مصر لأنه كتاب يبحث في جذور فقه اللغة العربية، فلا يمكن معالجة الكتابة بأمن الدولة ولا بمجمع البحوث الإسلامية".
الجريدة الرسمية