البرلمان بالإعدادية.. القضاء بـ "ليسانس" أبيك
تخيل أن اللحظة التي تتابع خلالها هذه السطور، تشهد مؤتمرًا صحفيًا لعدد 138 شابا ممن تعطلت إجراءات تعيينهم بالنيابة العامة، والسبب أن آباءهم وأمهاتهم لا يحملون مؤهلات عليا، أو قل هم من أبناء الطبقات الدنيا، أو الوسطى المتآكلة استحقاقاتها، العمال والفلاحين وصغار الموظفين.
اترك خيالك لحظات يتأمل المشهد، فمؤتمر آخر بمجلس الدولة يدور لإعلان قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، لمجلس النواب المقبل الذي تسمح شروط الترشح له ودخول البرلمان وسن التشريعات، لحملة شهادة التعليم الأساسي بالجلوس تحت القبة وتمرير قوانين تحكم يومياتك، وربما تعكنن عليك حياتك كالمعتاد.
أما الرافضون لتعيين هؤلاء الشباب فهو المجلس الأعلى للقضاء، الذي جارت شروطه على أحلام البسطاء في الصعود الاجتماعي بأسرهم عبر "سلك" التعليم، مطالبًا إياهم بإرجاء أحلامهم إلى ما بعد الزواج من فتيات "مؤهلات عليا"، وإنجاب أبناء يعيدون نفس الحلم بعد حصولهم على الليسانس، ومعه رخصة السمو الاجتماعي.
نفس الرافضين يطلون عليك من مجلس الدولة أو اللجنة العليا للانتخابات، للترحيب بمشرعك الجديد، حامل الإعدادية، طبقًا لدستور حرم العمال والفلاحين من نسبة 50% من مقاعد التشريع، وهم نفس الفئة التي يُحرَم أبناؤها الآن من دخول سلك القضاء.
وما يثير سخريتي صراحة من هذا الشرط الطبقي، أن تتجاهله كليات الحقوق عند قبولها الطلاب الجدد القادمين من الثانوي، وأن تتجاهل وزارة التربية والتعليم تطبيق الشرط نفسه على طلاب الإعدادية الراغبين في "الدح" خلال الدراسة الثانوية لرغبتهم في دخول كلية الحقوق، بدلًا من تحويل أبناء العمال والفلاحين منهم إلى التعليم الصناعي والزراعي "جبرًا" ليرثوا مهن آبائهم.
ثم إن نفس الشرط الذي يفرضه القضاء الأعلى يجعل تساؤلاتنا حول تعاملات قضاة المنصة مع المحامين أثناء التحقيقات والجلسات، تتزايد وتتطور بتطور الشرط نفسه، وما إذا كانت تبدو على ملامحهم أنهم أبناء عمال وفلاحين ولا يجب تقديرهم أثناء مرافعاتهم ودفاعهم عن موكليهم، طالما كانت شروط الامتناع عن منح الحق لأصحابه، هي نفسها شروط قبول آخرين والترحيب بهم، مستمدة من رؤية تنطوي على استبعاد طبقي.
كثيرًا ما ترددت على المحاكم ودواوين العدالة، قابلت قضاة شرفاء ينتمون إلى قرى ونجوع وعائلات تتباهى بأقطابها من الفلاحين والعمال الشرفاء، دون أن يخجل أحدهم من أصله، أو تتأثر أحكامه بغير صحيح القانون ونزاهة الضمير، ولم أستطع التفرقة بين قاضٍ حصل على ليسانس الحقوق على ضوء لمبة الجاز بمستعمرة عمالية أو بيت بالطوب اللبن في ريف مصر، أو ابن محظوظ برزق واسع وشهادات دراسية أعلى من المؤهلات الجامعية، ولم تتأثر قناعاتي بأحكام صادرة أمامي، لمجرد أن آذاني استمعت لمعلومات عن أصل وفصل القضاة الذين نطقوا بها.
الشرط "الأعلى" لدخول سلك القضاء، أعاد لذهني سيرة الدكتور عبد الحميد شتا، ابن المزارع البسيط علي شتا، فلاح قرية الفرماوي بالدقهلية، الذي تخلص فورًا من إحباطاته الناتجة عن قرارات طبقية مشابهة نفذتها وزارة الخارجية ضده قبل 10 سنوات، بالانتحار عبر إلقاء نفسه في نهر النيل المجاور للكيان الرافض لفكرة انضمام نابغة في الدبلوماسية والسياسة، باعتباره "غير لائق اجتماعيًا"، فهل تتكرر مأساة "شتا" مع جدد يرفضهم شرط مجلس القضاء الأعلى؟ وهل تعتقدون أن الثورة وقتها ستستهدف نظامًا.. أم منظومة؟