الثالوث المصري الحرج... القمح (1 )
منذ وعيت في الدنيا يتردد على مسامعي شعار "من لا يملك قوته.. لا يملك قراره"، وكان هذا الشعار ترجمة للنقص الحاد في إنتاج القمح في مصر، حتى في ظل تعداد سكاني غير مخيف في عام 1981 مثلا، حيث كان الاكتفاء الذاتي من القمح 20% فقط لنحو 40 مليون نسمة.
ومع تزايد السكان إلى ما يقرب من 90 مليون نسمة حاليا، بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح نحو 60 في المائة، وتلك معادلة غريبة، ولغز محير، وحله يتجسد في الجهود الجبارة التي تبذلها قوافل الباحثين المصريين المتخصصين في مجال الأمن الغذائي المصري، وليس الأمن سوى الإنتاج النباتي والحيواني والداجني والسمكي، أي "الزراعة."
والمتابع لحلقة الزراعة المصرية منذ القدم، يجد أن هناك ثالوثا مقدسا حرجا، وحاكما للحياة المصرية، يتكون من: محصول الأرز ويوازيه محصول الذرة، القمح ويوازيه البرسيم، ثم القطن الذي لم يكن ينافسه أي محصول في عقل المصري وقلبه، قبل نحو عشرة أعوام.
وبين أضلاع الثالوث الحرج، يتخبط المصريون بحثا عن الرغد، فبينما يفر إلى القمح طمعا في تأمين رغيف العيش لنفسه، والتبن علفا لماشيته، تتهاوى الأسعار العالمية من القمح مع اعتدال الأجواء في روسيا، وأوكرانيا، فتضطر هيئة السلع التموينية أو بنك الائتمان الزراعي لاستيراد القمح، لتنشط حركة تجار الداخل في جمع المحلي بأسعار تحقق خسارة للفلاح، أو ربحية لا ترضيه.
في هذه الحالة، يتجسد في الأرض المصرية حد الظلم، فبينما يهدر الفلاح عرقه، تذهب غلته المالية لجيوب التجار، والمحتكرين الذين لا عمل لهم سوى تخزين الحبوب تحينا لحاجة الدولة، حين تفرغ هيئة السلع التموينة من استهلاك ما جمعته مطلع موسم الحصاد.
في خط مواز، تعلو الأفراح على مراكب لوبي استيراد القمح، حيث تضخ الدولة نحو 21 مليار جنيه مصري سنويا لشراء قمح من الخارج، ولأن الدولة لا تستورد مباشرة، فإن القطاع الخاص هو الذي آلت إليه هذه المهمة، بتمويل من بنك التنمية والائتمان الزراعي، لصالح هيئة السلع التموينة.
ومع تنامي إحساس الدولة بالفلاح، بعد ثورة 30 يونيو، رأت وزارة الزراعة ضرورة التوصل لحلول مبتكرة، تجسدت في إشراك الجمعيات التعاونية في تسلم القمح من الفلاحين بسعر 420 جنيها للأردب (150 كيلو جراما)، بعد شكاوى من تعنت البنك في تسلم القمح من الفلاحين، وهو ما حدث العام الماضي، وسيطبق في الموسم المقبل، بتوجيه من الوزير الحالي أيضا الدكتور عادل البلتاجي.
تعنت البنك كان لأسباب لا يعرفها إلا المسئولين فيه، والعاملين أيضا، حيث يعتبرون موسم القمح مغنما سنويا لهم من بوابة المستوردين، فبسببه يتحصلون على المكافآت السنوية، التي تمثل حلا فرديا لكل منهم، يغنيه عن التفكير في الاقتصاد الكلي لمصر.
يبقى أن أسجل هنا رأيا بحثيا خبيرا من جامعة المنوفية، للدكتور محمد فتحي سالم، الذي يرى أن رفع سعر توريد القمح المصري إلى 700 جنيه، سيشجع الفلاح المصري على زراعته، بمساحة قد تصل إلى 3.5 ملايين فدان في الوادي والدلتا، واستخدام أصناف ومعاملات زراعية حديثة ترفع إنتاجية الفدان بنحو 50%، وبالتالي زيادة الإنتاج المحلي ليصل إلى نحو 12 مليون طن، لتضييق الفجوة.
يضيف الخبير أن هناك حقولا فلاحية، وليست إرشادية، نجحت في إنتاج 30 أردب قمح للفدان، وبذلك يمكن تخصيص المساحة الباقية من أراضي الوادي والدلتا، للبرسيم والبقوليات الأخرى "فول، عدس، فول صويا، سمسم، وعباد شمس)، مع السعي البحثي لرفع إنتاجية البرسيم بنسبة 40% أيضا، في ظل انحسار المساحة المخصصة لزراعته، لصالح القمح، "وهو ما تسعى إليه وزارة الزراعة حاليا".