رئيس التحرير
عصام كامل

حتى لا تصبح "شرق العوينات" مأوى للخفافيش


ماذا لو عرفت أن منطقة شرق العوينات التي تقع في الجنوب الغربي لمصر، من أغنى مصادر الحياة النظيفة في العالم، وهي الماء الصالح للشرب والزراعة، وبالتالي "كل شيء حي"، كما قال الله سبحانه وتعالى؟


هل لديك القدرة على الاعتراف بأنك ـ كمواطن مصري ـ من الذين قصروا في حق أنفسهم وأهليهم، ووطنهم، حين بالغت في حبك لموطئ قدميك، ومسقط رأسك على المتر الذي لن يكفي قبرك مستقبلا، لمجرد أنك عاطفي، وتحب الأهل والجيران والخلان؟
ربما تقول إن الدولة تحيزت للأغنياء ومنحتهم حق الاستثمار على المساحات الشاسعة من الأراضي، وحرمت المواطن الفقير من حق التملك والاستمتاع بالزراعة النظيفة، والانطلاق إلى البراح من زحمة الوادي الضيق.

كنت ـ أنا، من الذين آمنوا بدعوة الخروج من الوادي الضيق عام 2007، وحملت عصارة عمري وعمر أشقائي، واتجهت نحو غرب الدلتا، أي في عمق الصحراء الغربية في منطقة وادي النطرون، ويومها عدّني نفر من الأهل والأقارب والخلان في عداد المتهورين، وباتوا يحسبون الأيام التي تفصلني بين الذهاب مستورا، والعودة بائسا فقيرا ومدينا، ومهددا بالسجن.

وبعد سبعة أعوام من الصبر والعمل وحب الأرض والوطن والذات أيضا، أعلن الآن ندمي على اليوم الذي أوقفت مغامرتي فيه داخل حدود "وادي النطرون" التي لا يفصلها عن إقامتي في القاهرة سوى 90 دقيقة بالسيارة.

مبعث ندمي هي الفرحة التي غمرتني وأنا أنظر من شباك الطائرة التي أقلتني ضمن وفد وزارة الزراعة الجمعة الماضية، إلى منطقة شرق العوينات، حيث وجدت صورة جوية مشابهة لتلك الصور التي أسرتني للمرة الأولى حين حلقت بي طائرة "مصر للطيران" قبل عشرة أعوام فوق الأجواء الأوربية.

مبعث ندمي أيضا، هو أنني خشيت السفر برا قبل نحو عشرة أعوام، لمسافة 1200 كيلو متر، قطعها شباب مصريون مثلي، بدءوا مسيرتهم العملية في شرق العوينات قبل نحو 15 عاما، وبلغوا بعرقهم درجة "مستثمر" على مساحات تحسب بالألف فدان، وليس بالمئة مثل العبد لله.

هؤلاء المصريون وما أكثرهم في "شرق العوينات" سجلوا في كتاب المواطنة أعلى درجات الانتماء، حيث كانت درجة مغامرتهم الأعلى على مؤشر المخاطرة، لكن لأنهم أخلصوا النية، وعقدوا العزم على "فلاحة" النفس قبل الأرض، فازوا بالنتيجة التي تستحق الفخر.

أصبح هؤلاء منتجين للغذاء عالي الجودة، أفاد كثيرا في سد الفجوة الغذائية محليا، كما أصبحوا مصدرين فجلبوا العملة الصعبة التي أضافت للاحتياطي النقدي الأجنبي في مصر شيئا ذا قيمة اقتصادية عالية، وإن كان قليلا مقارنة بكبار المنتجين والمصدرين.

آلاف من المصريين جذبتهم أضواء "شرق العوينات" منذ أن كانت هدفا بحثيا وحلما في كتاب الأمل، يستحقون اهتمام الدولة، كونهم أول من آمن برسالة العمار في أطراف صحراء مصر، وفي ظل الظروف القاسية والصعبة واصلوا مسيرة كفاحهم، مكتفين بالنوم تحت سقف خيمة، أو العيش على الخبز المجفف وتمر الصحراء، وشربة مياه خرجت من بئر عميق، تم حفرها عام 1984 بواسطة شركة بترول مصرية.

هؤلاء حفروا مئات الآبار، وساهموا في زراعة أكثر من 160 ألف فدان تفتخر بها مصر حاليا، ويستمرون في إكمال المستهدف من زراعة أكثر من 220 ألف فدان متاحة حاليا للري من الخزان الجوفي الذي يكفي أكثر من 100 عام.

المصريون الذين آمنوا بآية العمار في مصر، يستحقون التقدير، ليس بالتماثيل أو بشهادات التقدير، ولكن بأبسط حقوقهم في العيش الكريم، من خلال توفير الخدمات الآدمية، مثل: الإسكان المحترم لهم ولأسرهم، والتعليم الجيد لأبنائهم من خلال المدارس، والعلاج من خلال المستشفيات، وتملك الأرض مثل المستثمرين الأجانب، بدلا من أن يكون مصير "شرق العوينات" كغيرها من تلك التجمعات التي أنفقت مصر عليها المليارات وتحولت إلى عشش للغربان والخفافيش.
الجريدة الرسمية