وزارة التضامن "منّاعة للخير"
ليس كل غني "شبعان" كما أنه ليس كل فقير "محروم"، فالحرمان والشبع نقيضان لا يستقيمان مع سببيهما المنطقيين.
هذا الاستنتاج كان من مشاهدة عينية لطوابير المتبرعين في الأسبوع الأخير من رمضان الماضي لمستشفيي 57357 لعلاج سرطان الأطفال بالمجان، ومستشفى الكبد المصري بالدقهلية "شربين"، واللذين جسدا مع مركز مجدي يعقوب للقلب في أسوان، ثلاثة من أروع بطولات الشعب المصري بكل فئاته.
معظم المتبرعين والمتبرعات كانوا من فئة "الست زينب" صاحبة "موقعة الحلَق" والرقم المبتكر في الجهاد لصالح صندوق "تحيا مصر"، ولم أجد في زحام متسابقي الخيرات في ردهتي مستشفيي السرطان والكبد، شخصا من أصحاب الوجاهة، لكن الصورة العامة أكدت أن معظمهم من المستورين والفقراء.
سجلت بعيني امرأة تحمل مائة جنيه، ورجلا يقبض على رزمة "خمسينات" لا تقل في شكلها العام عن خمسة آلاف جنيه، كما شاهدت أكياسا سوداء تستر مبلغ التبرع عن العيون، لكنها كانت تسحب تغريدة من القلب ابتهاجا بالنفرة الخيرية تجاه صروح تعيش على ضخ الخير من منابع الشعب وليس من موازنات الحكومة أو صناديقها.
صور وثقت مساندة الشعب للجهود الحكومة العاجزة عن إزالة أكوام القمامة مثلا، من مجرى مائي يلاصق سور مبنى مستشفى الكبد، أو إزالة مرابط الخيول من سور مجرى العيون أمام مستشفى سرطان الأطفال، وربما أسوأ من هذا وذاك في محيط مركز القلب بأسوان.
مستشفى الكبد بشربين زادت تكاليفه على 150 مليون جنيه كلها من التبرعات الأهلية، وينفق أيضا أكثر من 30 مليون جنيه سنويا على العلاج والأبحاث والأجور لمكافحة فيروسات الكبد اللعينة، ويواجه حاليا آثار "نكتة" سخيفة أطلقها البنك الحكومي الأكبر "الأهلي"، تسببت في منع أكثر من عشرة ملايين جنيه من الدخول في حسابه الخيري لدى فروع البنك في جميع المحافظات.
استثمر البنك الأهلي تعليمات غبية لوزارة التضامن الاجتماعي، تحظر جمع التبرعات المالية إلا بـ "تصريح جمع مال" لهدف محدد ولفترة محددة وفي بنك محدد، وعدم سحب هذا المال إلا تحت إشراف الجهاز المركزي للمحاسبات، ما تسبب في منع قبول أي تبرعات لحساب مستشىفى الكبد، وبالتالي ضياع الريع المستهدف من فاعلي الخير خلال شهر رمضان.
وإذا كان ظاهر تعليمات "التضامن" رحمة، فباطنها عذاب مقيم لتشريعات صدرت لمحاصرة التدفقات النقدية التي تتلقاها جمعيات سياسية مشبوهة، أو جهات حكومية محترمة لكنها لم تنشأ بهدف جمع التبرعات، مثل: معاهد الأورام الحكومية، أو المساجد، أو بعض المشاريع الخيرية الأهلية، فتم تعميمها "أي التشريعات" على الجهات التي أنشئت أصلا بهدف جمع التبرعات، مثل: مستشفى الكبد المصري بشربين، ومستشفى 57357، ومركز مجدي يعقوب في أسوان.
الصروح الطبية التي ذكرتها، تقدم نماذج حية على أن الشعب أغنى من الحكومة فعلا، ليس بغنى المال، لكن بغنى النفس التي تحتكم لتشريعات العقول، ومصادقة القلوب، قبل أن تندفع دفقات الخير من جيوب البسطاء جنيهات "فرط"، فتتحول إلى صروح، تعجز عن مضاهاتها الدولة، التي تشكل لجانا تتكلف آلاف الجنيهات، للتحقيق في قضية هدر مائة جنيه.
الغريب أن البنك الأهلي لم يفك الحظر حتى الآن عن حساب مستشفى الكبد المصري، على الرغم من أن جميع بنوك مصر الحكومية والخاصة، لم تنفذ التعليمات الغبية لوزارة التضامن، التي كانت قد سمحت في الأسبوع الأخير من شهر رمضان بفك الحظر عن حساب المستشفى المقصود في فرع البنك الأهلي في جامعة المنصورة فقط، بعد تدخل محافظ الدقهلية.
وبهذه المنحة الرحيمة من وزارة التضامن، يضطر المصريون "أهل بلدي في كل مكان ـ من المنزلة لغاية أسوان" للسفر إلى جامعة المنصورة كي يتبرعوا لصالح مرضى الكبد، الذين زاد عددهم في مصر الآن على 15 مليون شخص، كما تعكس غياب التنسيق الحكومي في الاستراتيجية الرامية إلى جعل مصر خالية من "فيروس سي" خلال الأعوام العشرة المقبلة.
و"تحيا مصر"