مستقبل أردوغان بين العزلة و العزل.. "فيتو" تفتح الملف الشائك (1- 5)
قبل عقد من
الزمان كان رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا في ذلك الوقت معشوقا للعرب من
المشرق إلى المغرب في جميع ربوع المنطقة لدرجة تعليق صوره الفوتغرافية في المنازل
واعتبره نموذجا للحاكم العادل.
الحال لم يعد الحال وصاحب الوجه البشوش والابتسامة المريحة تحول إلى عدو يقضم بأنيابه في جسد الأمة العربية، ولم يعد يخفي أهدافه وأحلامه وناصب الجميع العداء، نالت مصر حصتها ولم تسلم السعودية ووصل بقواته وميلشياته إلى سوريا وليبيا والعراق حتى منطقة البلقان لم تسلم من طموحاته التوسعية، وانتقل من البر لينقل أطماعه إلى البحر.
طموحات الرئيس التركي الذي بدأ مشروعه التوسعى بتفويض من الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما، ثم قرر تخطي الخطوط الحمراء مع تقمصه لدور الخليفة العثماني، وانتهى به المطاف لجلب الغضب على بلاده من كبار يملكون أوراق اللعبة في العالم، وشرعت أمريكا في عقابه ودخلت أوروبا غريمه التقليدي منذ أيام حكم أجداده في لعبة العقوبات، بطريقة تعيد إلى الأذهان وصف بلاده في الماضى بـ"رجل أوروبا المريض".
مستقبل ضبابي
مستقبل ضبابي أصبح ينتظر الرئيس التركي بعدما تحول إلى عبء على العالم وعلى نظامه هو نفسه لدرجة تململ أجهزة الدولة العميقة من سلوكه.. وبهدف رسم صورة لمستقبل أردوغان في المنطقة والعالم تفتح "فيتو" هذه الملف مع مجموعة من الخبراء في المنطقة من دول مختلفة طالها تدخلاته في شئونها الداخلية سواء عسكريا أو سياسيا.
وفى الحلقة الأولى من هذا الملف رسم الكاتب الكردي محمد أرسلان سيناريوهات مختلفة لمصير نظام أردوغان انتهت جميعها بالاتفاق على ضرورة رحيلها من سدة الحكم قبل سقوط الدولة التركية تحت سقف طموحاته .
يقول أرسلان في بداية حديثه، منذ انطلاق ما سُمي بثورات الربيع العربي من تونس ومصر وليبيا حتى سوريا مروراً باليمن والكثير من الدول، ومع الفوضى والاضطرابات التي حصلت وكذلك مع عدم وجود صيغة محددة لتحركات الشارع الذي كان محقاً في الكثير من مطالبه بمزيد من الحرية والتشارك في القرار وحل الكثير من الأزمات، حاول التيار الإسلاموي ركوب الموجة واستغلال ثورات الربيع العربي للوصول إلى السلطة مستغلاً بذلك مطالب الناس المحقة.
وصى على الثورات
هنا وفي هذه الفترة بالذات ظهر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، جاعلاً من نفسه وصياً على هذه الثورات والذي سيحقق لهم أمانيهم وآمالهم في الاستيلاء على السلطة، ومن المعلوم أن أردوغان ومنذ عام 2002 يتم تجهيزه لهذه المرحلة ليكون نموذجاً يحتذى به في العالم العربي والإسلامي على حدٍ سواء.
أردوغان الذي أعلن بنفسه عبر شاشات التلفزة عام 2006 بأنه "الشريك الأساسي لمشروع الشرق الأوسط الجديد/الكبير"، وأن القوى العالمية سوف تسانده وتدعمه من أجل إنجاح وتنفيذ المشروع. على هذا تم فتح الطريق أمامه وخاصة من قبل صندوق النقد الدولي والرأسمال العالمي لتحويل الاقتصاد التركي في فترة وجيزة إلى اقتصاد متطور وناجح بات مضرب المثل من شعوب ودول المنطقة.
وأعقب ذلك حادثتا مؤتمر دافوس عام 2009 ومقولة "دقيقة واحدة" التي هزت مشاعر وعواطف السذج من العرب والمسلمين حتى أصبح أردوغان محرر فلسطين وقاهر الإسرائيليين.
ثم انسحب أردوغان بعدها من المؤتمر، معترضاً على عدم إعطائه الفرصة للحديث، مقرراً عدم المشاركة به مرة أخرى، ووصل أردوغان إلى إسطنبول كبطل تاريخي وسط احتفاء جماهيري ووسط الآلاف من الداعمين للقضية الفلسطينية، وادعى أن بيريز اعتذر له سابقًا بينما نفت إسرائيل الاعتذار نفياً قاطعاً.
لتبقى الحقيقة مخفية عن هؤلاء السذج حتى نطقها مستشاره أحمد داوود أوغلو قبل أيام وكشف عن المستور منذ أحد عشر عاماً قائلاً: "وهو يعلم جيداً أنني قمت شخصياً من خلف الكواليس بالاتصال بشيمون بيريز، ليعتذر عبر هاتفي الشخصي، بصفتي كبير المستشارين".
والحادثة الثانية هي سفينة مرمرة التي ادعى فيها أردوغان أنه أرسلها من أجل تقديم المساعدات لشعب غزة، بينما اعترضت القوات الإسرائيلية السفينة. وكلنا يعلم ما حدث من تفاصيل حولها. بهاتين الحادثتين ارتفع رصيد أردوغان القوموي والديني ليتحول إلى المهدي المنتظر لتخليص المنطقة من الحكام المتخاذلين والمستبدين حسب رأيه طبعاً.
وراحت الآلة الإعلامية الدولية وكذلك المرتبطة بالإخوان بالترويج لشخصية أردوغان على أنه النموذج والقائد الذي يجب السير خلف رايته وقيادته. ودخول الإخوان على الخط ومدحهم لأردوغان لم يكن مصادفة البتة، بل هو استكمالاً لصناعة الزعيم والرمز الذي سيقضي على الثورات من خلاله وليكون هو الموجه الحقيقي لها. من هنا بمقدورنا الفهم أكثر لماذا زادت شعبية أردوغان كالطوفان في المنطقة ودور الإخوان المسلمين في ذلك. حيث زادت شهية أردوغان والعدالة والتنمية إلى التوسع والتدخل في المنطقة مع توفر فراغات السلطة وكذلك الفراغ الأمني والفكري والسياسي، بالإضافة إلى النشاط الملحوظ لتيارات الإخوان المسلمين وكذلك لعدة تيارات إسلاموية راديكالية التي ليس لها انتماء وطني أو مجتمعي بل ولائها للتنظيم الدولي وللمرشد.
عقد عائلة أردوغان
لعبت تركيا وأردوغان في 10 سنوات الأخيرة دوراً سلبياً فيما يخص الاستقرار والأمن في المنطقة. ومن المهم معرفة أن تركيا وخلال هذا العقد وخصوصاً في ظل الحكم المطلق لعائلة أردوغان تحولت إلى مقر فعلي لتنظيم الإخوان المسلمين وسمحت تركيا لأكثر من عشرات الآلاف من القاعدة وداعش استعمال أراضيها ودخول سوريا، ويشاهد في مدن مثل عنتاب وإسطنبول وأورفة وأزمير الكثير من مظاهر داعش وأحياناً أعلامهم والعديد من المعسكرات لتدريب هذه التنظيمات الإرهابية بإشراف المخابرات التركية.
واستخدمت أنقرة العديد من المنظمات الإنسانية والإغاثية مثل آفاد ومنظمة تيكا والصليب الأحمر التركي لتمرير عناصر الاستخبارات وتمهيد الجو للتدخلات التركية وتمكين التنظيمات الاخوانية وحتى في بعض الأحيان دعمهم بالطائرات المسيرة والأسلحة الأخرى.
محاربة داعش
ومهما ادعت تركيا محاربتها لداعش بضغط من التحالف الدولي لكن مما لا شك فيه أن لتركيا علاقة بالتنظيم، بل أن داعش هي احدى أدواتها لضرب الاستقرار وخلق الفوضى لتستطيع العبور خلالها إلى تنفيذ مشاريعها مثل العثمانية الجديدة او المشروع الكلي للمنطقة مثل الشرق الأوسط الكبير/الجديد، أو حتى ممارسة مختلف الضغوط حتى تذهب المنطقة إلى نظام إقليمي ربما يكون جديد مثل إمكانية البدء به تحت اتفاقيات إبراهيم وغيرها في المستقبل.
معارضة بلاغية
ومن المهم ذكره أن المعارضة التركية وفي تدخل أردوغان في الدول الاقليمية وإرساله للجيش التركي لم يعارضوا إلا في الإطار البلاغي والخطابي، لكن كل الأحزاب ما عدا حزب الشعوب الديمقراطي أيدو مذكرة وتفويض إرسال الجيش التركي إلى الخارج أي المحيط العربي لدعم الفوضى واستمرار التوتر والقلق وبالتالي تأمين جو لتكاثر وتزايد المجموعات الارهابية. وما نراه الآن في شمالي سوريا وكذلك نقلهم للمرتزقة والإرهابيين من سوريا إلى ليبيا وكذلك إلى أرمينيا بتعليمات مباشرة من أردوغان عن طريق الاستخبارات التركية، إلا دليلا كافياً عن تورط أردوغان في دعمه للمرتزقة والإرهابيين لنشر الفوضى في المنطقة. والمثير للانتباه أن كل ذلك يتم أمام أنظار القوى الإقليمية والدولية من دون أن تحرك ساكناً.
حيص معظم الدول الأوروبية حتى الآن لم تتعدَ تهديداتها ووعيدها لأردوغان المستوى الإعلامي الخجول بكل معنى الكلمة، لكن من الناحية العملية ليس هناك أية خطوات عملية للخد من فوضى أردوغان في المنطقة. وربما يُفهم أن الدول الأوروبية لها مصالح اقتصادية أكبر بكثير مما تشكله الفوضى وأردوغان في المنطقة ولذلك نراها أنه لا حول لها ولا قوة. أو أنه ثمة قوى تعرقل مساعي الاتحاد الأوروبي لاصدار أية عقوبات على أردوغان وتركيا، وأن هذه القوى هي أقوى وأكبر من قوة الاتحاد الأوروبي بحد ذاته وربما بمقدورنا تسميتها بالدولة العميقة الدولية التي أعطت الضوء الأخضر لأردوغان في نشر الفوضى منذ عام 2006.
احتلاله لمدن في الشمال السوري وتهجير شعب عفرين وسري كانية/رأس العين وتل أبيض/ كري سبي ونشره لأكثر من 30 قاعدة عسكرية واستخباراتية في الشمال العراقي في منطقة نفوذ البارزاني واحتلاله شمال غربي ليبيا وكذلك جنوب مقاطعة ناغورنو كاراباغ في أرمينيا والتي تقع على الحدود مع إيران، ونشره الجنود في الصومال والدوحة والآن يعمل على ارسال المرتزقة إلى كشمير واليمن.
وفي الداخل التركي فحدث ولا حرج. إذ، لم يسلم منه أحد من الأتراك والكرد. آلاف المعتقلين ما زالوا في السجون بحجج لا أساس لها من الصحة. حيث اعتقال الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي ومئات الكوادر وحتى أنه هناك أكثر من 16 ألف معتقل من مؤيدي هذا الحزب. طبعاً، بالإضافة للآلاف من عناصر الجيش والقضاة والمحامين والإعلاميين، وكل من رفض الخنوع لأردوغان. وآخر تحركاته هي نقل جماعة الحزب الإسلامي التركستاني من الايغور، نقلهم من شمالي سوريا إلى المدن الكردية في شمالي كردستان في تركيا، كبنادق مأجورة وإرهابيين يرهبون فيهم الكرد هناك. وتم توطينهم كمرحلة أولى في مدينة ديار بكر (آمد).
هذا التغول والتوغل في دول المنطقة إن لم تكن قوى كبيرة وراء أردوغان، فمن سيعطي هذه التحركات هذا الزخم لأردوغان ومن يدور في فلكه من تنظيم الاخوان المسلمين الدولي.
بكل تأكيد علينا ألا ننسى الدور السيء الذي أراد أن يلعبه في البحر المتوسط أيضاً بحجة البحث عن الغاز ومحاولاته ابتزاز بعض دول المتوسط مثل اليونان وقبرص وإيطاليا وتهديدهم بإغراقهم باللاجئين السوريين إن هم عرقلوا مخططاته. ومن ناحية أخرى ابتزاز مصر من خلال توقيع اتفاقية الذل مع السراج في رسم الحدود البحرية ومنح موانئ ليبيا لأردوغان لإقامة قواعد عسكرية عليها.
تحركات مصر في المتوسط وترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص وإيطاليا من جهة، وفشل مخططات أردوغان أمام مقاومة الجيش الوطني الليبي. وعلينا ألا ننسى مقاومة كريلا حزب العمال الكردستاني الذين لقنوا أردوغان ومن معه من مرتزقة وجحوش في الشمال العراقي درساً لن ينسوه طالما هم على قيد الحياة. والأهم فشله في احتلال الشمال السوري ووقوف قوات سوريا الديمقراطية ضد مشاريع أردوغان ومرتزقته، كل ذلك جعل من أردوغان اضحوكة في المنطقة.
أمام كل هذه الإخفاقات التي تعرض لها أردوغان يتبادر إلى أذهاننا سؤال مفاده ما هو مستقبل أردوغان في المنظور القريب والبعيد وفق التوازنات الإقليمية والدولية. وللإجابة على هذا السؤال ربما يكون لدينا احتمالات عدة ويمكننا ايجازها بما يلي:
1 - استمرار الوضع وبقاء تركيا عضو في الناتو والمشاركة بالعمليات المشتركة للناتو واستمرار النموذج الحالي للسلطات بمواقفها غير المريحة، لكن على أن تبقى ضمن المنظومة الغربية في الإطار العام. وكذلك التفاعل مع أمريكا والاتحاد الأوربي مع بقاء بعض المشاكل، مع حل بعض المشاكل الخلافية مع الاتحاد الأوربي وأمريكا العالقة دون التسبب في توتر كبير.
2 - صعود سياسي معارض في انتخابات 2023 والقيام بإلغاء التعديلات الدستورية التي تمت في 2017م والعودة للنظام البرلماني. وتبني سياسة خارجية وأمنية أكثر غربية ومتوافقة مع الاتحاد الأوربي وأمريكا. بكل تأكيد سيؤدي هذا الوضع إلى تطوير العلاقات مع السياسة الأمنية الأمريكية والأوروبية والتفاهم معهم، وتحسين العلاقات مع العالم العربي، والاقتراب من حل القضايا الأساسية مثل الكردية والقبرصية وكذلك المشاكل الداخلية.
3 - وجود علاقات لتركيا مع روسيا والصين وإيران وكذلك بقاءها في الناتو بنفس الوقت. ومحاولة تركيا لخلق توازن أكثر وضوحاً مع وجود التحالفات المتقلبة. وهذا سيكون ضار لجهود ردع الصين وروسيا من قبل أمريكا، وتزداد احتمالية حدوث هذا في المستقبل إذا ظلت المشاكل التركية مستمرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية دون حل.
4 - وصول انعدام الثقة المتبادل والخلافات السياسية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى نقطة الانهيار، وسوف تنفصل تركيا رسميًا عن الناتو وستقيم علاقات أوثق مع روسيا والصين وإيران، ومعها سيكون خطر نشوب صراع عسكري ومحاولة تشكيل الخريطة التركية من جديد وربما دعم أطراف داخلية متناقضة في نفس الوقت.
5 - حصول انقلاب عسكري يطيح بأردوغان وحزبه، ومحاكمة أردوغان وحزبه بتهمة دعم الإسلاميين الراديكاليين والإرهاب وداعش. وإعادة تشكيل سلطة تكون لها علاقة جيدة مع الغرب وتقيم علاقات متوازنة مع المحيط.
6 - فقدان أردوغان السلطة في انتخابات 2023 وعدم ترك السلطة والادعاء بوقوع مشاكل ومحاولة الإعادة. وحصول انقسامات واصطفافات حادة في المجتمع التركي، تكون أقرب للحرب الأهلية. وتستمر لسنوات قبل إيجاد الحل والتدخل من قبل القوى العالمية بعد أن تصل أوضاع تركيا الداخلية للمرحلة المطلوبة.
وهكذا لو أخذنا كل الاحتمالات نجد أن تركيا قادمة على أجواء من التوتر والاضطرابات وربما لن تتوقف الشرارة عند الحدود التركية، بل سيكون لها تأثير على المنطقة والعالم. ويبقى من الأهمية التعامل مع الملف التركي بحكمة وأقل ضرر على السلم والأمن الإقليميين. وتبقى أهمية قاعدة أنجرليك كبيرة في تأمين التواصل مع الجيش التركي وفي إعطائه أدواراً ربما تخرج عن كونها قاعدة ثابتة في تركيا. لكن احتمال فقدانها واردة مع زيادة التوترات أو عند ذهاب السلطة في تركيا أو القوى الغربية إلى خيارات أكثر حدية.
وهكذا نجد أنه لفهم التدخلات التركية وسياستها في الإقليم وكذلك لإيجاد سياسات رادعة وكافية لمنع التمدد والاحتلال التركي للشعوب ودول المنطقة، يتطلب معرفة دقيقة بكيفية سير النظام التركي وآليات صنع قراره وكذلك يتطلب المعرفة بالداخل التركي وقضاياه وبنقاط الضعف والأماكن الرخوة للنظام والسلطات التركية، حتى يكون وضع السياسات والبرامج لحماية شعوبنا ودولنا صحيحة وتأتي ثمارها وكذلك في تجاوز حالة الفوضى واللا استقرار التي تحاول تركيا بأن تكون طويلة كي تتمكن من تحقيق أهدافها وهيمنتها الإقليمية. ويبقى التعايش المشترك وأخوة الشعوب وكذلك بناء تحالفات قائمة على الأسس الديمقراطية وعلى الاعتراف المتبادل بين شعوب المنطقة، وكذلك بين دولها بالإضافة إلى بناء تحالف دولي ومنظومة علاقات ومصالح مشتركة تقف بالضد من الفوضى والاضطرابات وتحقق الأمن والسلام والاستقرار لكل الشعوب وحتى للشعب التركي الذي أبتلي بأكبر مصيبة في حياته.
الحال لم يعد الحال وصاحب الوجه البشوش والابتسامة المريحة تحول إلى عدو يقضم بأنيابه في جسد الأمة العربية، ولم يعد يخفي أهدافه وأحلامه وناصب الجميع العداء، نالت مصر حصتها ولم تسلم السعودية ووصل بقواته وميلشياته إلى سوريا وليبيا والعراق حتى منطقة البلقان لم تسلم من طموحاته التوسعية، وانتقل من البر لينقل أطماعه إلى البحر.
طموحات الرئيس التركي الذي بدأ مشروعه التوسعى بتفويض من الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما، ثم قرر تخطي الخطوط الحمراء مع تقمصه لدور الخليفة العثماني، وانتهى به المطاف لجلب الغضب على بلاده من كبار يملكون أوراق اللعبة في العالم، وشرعت أمريكا في عقابه ودخلت أوروبا غريمه التقليدي منذ أيام حكم أجداده في لعبة العقوبات، بطريقة تعيد إلى الأذهان وصف بلاده في الماضى بـ"رجل أوروبا المريض".
مستقبل ضبابي
مستقبل ضبابي أصبح ينتظر الرئيس التركي بعدما تحول إلى عبء على العالم وعلى نظامه هو نفسه لدرجة تململ أجهزة الدولة العميقة من سلوكه.. وبهدف رسم صورة لمستقبل أردوغان في المنطقة والعالم تفتح "فيتو" هذه الملف مع مجموعة من الخبراء في المنطقة من دول مختلفة طالها تدخلاته في شئونها الداخلية سواء عسكريا أو سياسيا.
وفى الحلقة الأولى من هذا الملف رسم الكاتب الكردي محمد أرسلان سيناريوهات مختلفة لمصير نظام أردوغان انتهت جميعها بالاتفاق على ضرورة رحيلها من سدة الحكم قبل سقوط الدولة التركية تحت سقف طموحاته .
يقول أرسلان في بداية حديثه، منذ انطلاق ما سُمي بثورات الربيع العربي من تونس ومصر وليبيا حتى سوريا مروراً باليمن والكثير من الدول، ومع الفوضى والاضطرابات التي حصلت وكذلك مع عدم وجود صيغة محددة لتحركات الشارع الذي كان محقاً في الكثير من مطالبه بمزيد من الحرية والتشارك في القرار وحل الكثير من الأزمات، حاول التيار الإسلاموي ركوب الموجة واستغلال ثورات الربيع العربي للوصول إلى السلطة مستغلاً بذلك مطالب الناس المحقة.
وصى على الثورات
هنا وفي هذه الفترة بالذات ظهر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، جاعلاً من نفسه وصياً على هذه الثورات والذي سيحقق لهم أمانيهم وآمالهم في الاستيلاء على السلطة، ومن المعلوم أن أردوغان ومنذ عام 2002 يتم تجهيزه لهذه المرحلة ليكون نموذجاً يحتذى به في العالم العربي والإسلامي على حدٍ سواء.
أردوغان الذي أعلن بنفسه عبر شاشات التلفزة عام 2006 بأنه "الشريك الأساسي لمشروع الشرق الأوسط الجديد/الكبير"، وأن القوى العالمية سوف تسانده وتدعمه من أجل إنجاح وتنفيذ المشروع. على هذا تم فتح الطريق أمامه وخاصة من قبل صندوق النقد الدولي والرأسمال العالمي لتحويل الاقتصاد التركي في فترة وجيزة إلى اقتصاد متطور وناجح بات مضرب المثل من شعوب ودول المنطقة.
وأعقب ذلك حادثتا مؤتمر دافوس عام 2009 ومقولة "دقيقة واحدة" التي هزت مشاعر وعواطف السذج من العرب والمسلمين حتى أصبح أردوغان محرر فلسطين وقاهر الإسرائيليين.
ثم انسحب أردوغان بعدها من المؤتمر، معترضاً على عدم إعطائه الفرصة للحديث، مقرراً عدم المشاركة به مرة أخرى، ووصل أردوغان إلى إسطنبول كبطل تاريخي وسط احتفاء جماهيري ووسط الآلاف من الداعمين للقضية الفلسطينية، وادعى أن بيريز اعتذر له سابقًا بينما نفت إسرائيل الاعتذار نفياً قاطعاً.
لتبقى الحقيقة مخفية عن هؤلاء السذج حتى نطقها مستشاره أحمد داوود أوغلو قبل أيام وكشف عن المستور منذ أحد عشر عاماً قائلاً: "وهو يعلم جيداً أنني قمت شخصياً من خلف الكواليس بالاتصال بشيمون بيريز، ليعتذر عبر هاتفي الشخصي، بصفتي كبير المستشارين".
والحادثة الثانية هي سفينة مرمرة التي ادعى فيها أردوغان أنه أرسلها من أجل تقديم المساعدات لشعب غزة، بينما اعترضت القوات الإسرائيلية السفينة. وكلنا يعلم ما حدث من تفاصيل حولها. بهاتين الحادثتين ارتفع رصيد أردوغان القوموي والديني ليتحول إلى المهدي المنتظر لتخليص المنطقة من الحكام المتخاذلين والمستبدين حسب رأيه طبعاً.
وراحت الآلة الإعلامية الدولية وكذلك المرتبطة بالإخوان بالترويج لشخصية أردوغان على أنه النموذج والقائد الذي يجب السير خلف رايته وقيادته. ودخول الإخوان على الخط ومدحهم لأردوغان لم يكن مصادفة البتة، بل هو استكمالاً لصناعة الزعيم والرمز الذي سيقضي على الثورات من خلاله وليكون هو الموجه الحقيقي لها. من هنا بمقدورنا الفهم أكثر لماذا زادت شعبية أردوغان كالطوفان في المنطقة ودور الإخوان المسلمين في ذلك. حيث زادت شهية أردوغان والعدالة والتنمية إلى التوسع والتدخل في المنطقة مع توفر فراغات السلطة وكذلك الفراغ الأمني والفكري والسياسي، بالإضافة إلى النشاط الملحوظ لتيارات الإخوان المسلمين وكذلك لعدة تيارات إسلاموية راديكالية التي ليس لها انتماء وطني أو مجتمعي بل ولائها للتنظيم الدولي وللمرشد.
عقد عائلة أردوغان
لعبت تركيا وأردوغان في 10 سنوات الأخيرة دوراً سلبياً فيما يخص الاستقرار والأمن في المنطقة. ومن المهم معرفة أن تركيا وخلال هذا العقد وخصوصاً في ظل الحكم المطلق لعائلة أردوغان تحولت إلى مقر فعلي لتنظيم الإخوان المسلمين وسمحت تركيا لأكثر من عشرات الآلاف من القاعدة وداعش استعمال أراضيها ودخول سوريا، ويشاهد في مدن مثل عنتاب وإسطنبول وأورفة وأزمير الكثير من مظاهر داعش وأحياناً أعلامهم والعديد من المعسكرات لتدريب هذه التنظيمات الإرهابية بإشراف المخابرات التركية.
واستخدمت أنقرة العديد من المنظمات الإنسانية والإغاثية مثل آفاد ومنظمة تيكا والصليب الأحمر التركي لتمرير عناصر الاستخبارات وتمهيد الجو للتدخلات التركية وتمكين التنظيمات الاخوانية وحتى في بعض الأحيان دعمهم بالطائرات المسيرة والأسلحة الأخرى.
محاربة داعش
ومهما ادعت تركيا محاربتها لداعش بضغط من التحالف الدولي لكن مما لا شك فيه أن لتركيا علاقة بالتنظيم، بل أن داعش هي احدى أدواتها لضرب الاستقرار وخلق الفوضى لتستطيع العبور خلالها إلى تنفيذ مشاريعها مثل العثمانية الجديدة او المشروع الكلي للمنطقة مثل الشرق الأوسط الكبير/الجديد، أو حتى ممارسة مختلف الضغوط حتى تذهب المنطقة إلى نظام إقليمي ربما يكون جديد مثل إمكانية البدء به تحت اتفاقيات إبراهيم وغيرها في المستقبل.
معارضة بلاغية
ومن المهم ذكره أن المعارضة التركية وفي تدخل أردوغان في الدول الاقليمية وإرساله للجيش التركي لم يعارضوا إلا في الإطار البلاغي والخطابي، لكن كل الأحزاب ما عدا حزب الشعوب الديمقراطي أيدو مذكرة وتفويض إرسال الجيش التركي إلى الخارج أي المحيط العربي لدعم الفوضى واستمرار التوتر والقلق وبالتالي تأمين جو لتكاثر وتزايد المجموعات الارهابية. وما نراه الآن في شمالي سوريا وكذلك نقلهم للمرتزقة والإرهابيين من سوريا إلى ليبيا وكذلك إلى أرمينيا بتعليمات مباشرة من أردوغان عن طريق الاستخبارات التركية، إلا دليلا كافياً عن تورط أردوغان في دعمه للمرتزقة والإرهابيين لنشر الفوضى في المنطقة. والمثير للانتباه أن كل ذلك يتم أمام أنظار القوى الإقليمية والدولية من دون أن تحرك ساكناً.
حيص معظم الدول الأوروبية حتى الآن لم تتعدَ تهديداتها ووعيدها لأردوغان المستوى الإعلامي الخجول بكل معنى الكلمة، لكن من الناحية العملية ليس هناك أية خطوات عملية للخد من فوضى أردوغان في المنطقة. وربما يُفهم أن الدول الأوروبية لها مصالح اقتصادية أكبر بكثير مما تشكله الفوضى وأردوغان في المنطقة ولذلك نراها أنه لا حول لها ولا قوة. أو أنه ثمة قوى تعرقل مساعي الاتحاد الأوروبي لاصدار أية عقوبات على أردوغان وتركيا، وأن هذه القوى هي أقوى وأكبر من قوة الاتحاد الأوروبي بحد ذاته وربما بمقدورنا تسميتها بالدولة العميقة الدولية التي أعطت الضوء الأخضر لأردوغان في نشر الفوضى منذ عام 2006.
احتلاله لمدن في الشمال السوري وتهجير شعب عفرين وسري كانية/رأس العين وتل أبيض/ كري سبي ونشره لأكثر من 30 قاعدة عسكرية واستخباراتية في الشمال العراقي في منطقة نفوذ البارزاني واحتلاله شمال غربي ليبيا وكذلك جنوب مقاطعة ناغورنو كاراباغ في أرمينيا والتي تقع على الحدود مع إيران، ونشره الجنود في الصومال والدوحة والآن يعمل على ارسال المرتزقة إلى كشمير واليمن.
وفي الداخل التركي فحدث ولا حرج. إذ، لم يسلم منه أحد من الأتراك والكرد. آلاف المعتقلين ما زالوا في السجون بحجج لا أساس لها من الصحة. حيث اعتقال الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي ومئات الكوادر وحتى أنه هناك أكثر من 16 ألف معتقل من مؤيدي هذا الحزب. طبعاً، بالإضافة للآلاف من عناصر الجيش والقضاة والمحامين والإعلاميين، وكل من رفض الخنوع لأردوغان. وآخر تحركاته هي نقل جماعة الحزب الإسلامي التركستاني من الايغور، نقلهم من شمالي سوريا إلى المدن الكردية في شمالي كردستان في تركيا، كبنادق مأجورة وإرهابيين يرهبون فيهم الكرد هناك. وتم توطينهم كمرحلة أولى في مدينة ديار بكر (آمد).
هذا التغول والتوغل في دول المنطقة إن لم تكن قوى كبيرة وراء أردوغان، فمن سيعطي هذه التحركات هذا الزخم لأردوغان ومن يدور في فلكه من تنظيم الاخوان المسلمين الدولي.
بكل تأكيد علينا ألا ننسى الدور السيء الذي أراد أن يلعبه في البحر المتوسط أيضاً بحجة البحث عن الغاز ومحاولاته ابتزاز بعض دول المتوسط مثل اليونان وقبرص وإيطاليا وتهديدهم بإغراقهم باللاجئين السوريين إن هم عرقلوا مخططاته. ومن ناحية أخرى ابتزاز مصر من خلال توقيع اتفاقية الذل مع السراج في رسم الحدود البحرية ومنح موانئ ليبيا لأردوغان لإقامة قواعد عسكرية عليها.
تحركات مصر في المتوسط وترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص وإيطاليا من جهة، وفشل مخططات أردوغان أمام مقاومة الجيش الوطني الليبي. وعلينا ألا ننسى مقاومة كريلا حزب العمال الكردستاني الذين لقنوا أردوغان ومن معه من مرتزقة وجحوش في الشمال العراقي درساً لن ينسوه طالما هم على قيد الحياة. والأهم فشله في احتلال الشمال السوري ووقوف قوات سوريا الديمقراطية ضد مشاريع أردوغان ومرتزقته، كل ذلك جعل من أردوغان اضحوكة في المنطقة.
أمام كل هذه الإخفاقات التي تعرض لها أردوغان يتبادر إلى أذهاننا سؤال مفاده ما هو مستقبل أردوغان في المنظور القريب والبعيد وفق التوازنات الإقليمية والدولية. وللإجابة على هذا السؤال ربما يكون لدينا احتمالات عدة ويمكننا ايجازها بما يلي:
1 - استمرار الوضع وبقاء تركيا عضو في الناتو والمشاركة بالعمليات المشتركة للناتو واستمرار النموذج الحالي للسلطات بمواقفها غير المريحة، لكن على أن تبقى ضمن المنظومة الغربية في الإطار العام. وكذلك التفاعل مع أمريكا والاتحاد الأوربي مع بقاء بعض المشاكل، مع حل بعض المشاكل الخلافية مع الاتحاد الأوربي وأمريكا العالقة دون التسبب في توتر كبير.
2 - صعود سياسي معارض في انتخابات 2023 والقيام بإلغاء التعديلات الدستورية التي تمت في 2017م والعودة للنظام البرلماني. وتبني سياسة خارجية وأمنية أكثر غربية ومتوافقة مع الاتحاد الأوربي وأمريكا. بكل تأكيد سيؤدي هذا الوضع إلى تطوير العلاقات مع السياسة الأمنية الأمريكية والأوروبية والتفاهم معهم، وتحسين العلاقات مع العالم العربي، والاقتراب من حل القضايا الأساسية مثل الكردية والقبرصية وكذلك المشاكل الداخلية.
3 - وجود علاقات لتركيا مع روسيا والصين وإيران وكذلك بقاءها في الناتو بنفس الوقت. ومحاولة تركيا لخلق توازن أكثر وضوحاً مع وجود التحالفات المتقلبة. وهذا سيكون ضار لجهود ردع الصين وروسيا من قبل أمريكا، وتزداد احتمالية حدوث هذا في المستقبل إذا ظلت المشاكل التركية مستمرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية دون حل.
4 - وصول انعدام الثقة المتبادل والخلافات السياسية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى نقطة الانهيار، وسوف تنفصل تركيا رسميًا عن الناتو وستقيم علاقات أوثق مع روسيا والصين وإيران، ومعها سيكون خطر نشوب صراع عسكري ومحاولة تشكيل الخريطة التركية من جديد وربما دعم أطراف داخلية متناقضة في نفس الوقت.
5 - حصول انقلاب عسكري يطيح بأردوغان وحزبه، ومحاكمة أردوغان وحزبه بتهمة دعم الإسلاميين الراديكاليين والإرهاب وداعش. وإعادة تشكيل سلطة تكون لها علاقة جيدة مع الغرب وتقيم علاقات متوازنة مع المحيط.
6 - فقدان أردوغان السلطة في انتخابات 2023 وعدم ترك السلطة والادعاء بوقوع مشاكل ومحاولة الإعادة. وحصول انقسامات واصطفافات حادة في المجتمع التركي، تكون أقرب للحرب الأهلية. وتستمر لسنوات قبل إيجاد الحل والتدخل من قبل القوى العالمية بعد أن تصل أوضاع تركيا الداخلية للمرحلة المطلوبة.
وهكذا لو أخذنا كل الاحتمالات نجد أن تركيا قادمة على أجواء من التوتر والاضطرابات وربما لن تتوقف الشرارة عند الحدود التركية، بل سيكون لها تأثير على المنطقة والعالم. ويبقى من الأهمية التعامل مع الملف التركي بحكمة وأقل ضرر على السلم والأمن الإقليميين. وتبقى أهمية قاعدة أنجرليك كبيرة في تأمين التواصل مع الجيش التركي وفي إعطائه أدواراً ربما تخرج عن كونها قاعدة ثابتة في تركيا. لكن احتمال فقدانها واردة مع زيادة التوترات أو عند ذهاب السلطة في تركيا أو القوى الغربية إلى خيارات أكثر حدية.
وهكذا نجد أنه لفهم التدخلات التركية وسياستها في الإقليم وكذلك لإيجاد سياسات رادعة وكافية لمنع التمدد والاحتلال التركي للشعوب ودول المنطقة، يتطلب معرفة دقيقة بكيفية سير النظام التركي وآليات صنع قراره وكذلك يتطلب المعرفة بالداخل التركي وقضاياه وبنقاط الضعف والأماكن الرخوة للنظام والسلطات التركية، حتى يكون وضع السياسات والبرامج لحماية شعوبنا ودولنا صحيحة وتأتي ثمارها وكذلك في تجاوز حالة الفوضى واللا استقرار التي تحاول تركيا بأن تكون طويلة كي تتمكن من تحقيق أهدافها وهيمنتها الإقليمية. ويبقى التعايش المشترك وأخوة الشعوب وكذلك بناء تحالفات قائمة على الأسس الديمقراطية وعلى الاعتراف المتبادل بين شعوب المنطقة، وكذلك بين دولها بالإضافة إلى بناء تحالف دولي ومنظومة علاقات ومصالح مشتركة تقف بالضد من الفوضى والاضطرابات وتحقق الأمن والسلام والاستقرار لكل الشعوب وحتى للشعب التركي الذي أبتلي بأكبر مصيبة في حياته.