ربيع التفجيرات في بيروت
بعد سقوط زين العابدين بن على في تونس وحسنى مبارك في مصر كنا نظن أن المنطقة العربية كسرت موضوع "الاستثناء العربى" العاصى على الديمقراطية ودشنت الموجة الخامسة من الديمقراطية لتنضم إلى الموجات الأربع التي غطت معظم أركان الكرة الأرضية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولكن اتضح بعد ذلك أن ذلك الربيع تحول إلى كابوس بفعل القوى المعادية للديمقراطية والتي تعشش في المنطقة منذ قرون، حدث ذلك رغم تضحيات أبنائها وطوق الكثيرين لكى يلحقوا بقطار الديمقراطية المتأخر كثيرا عن العالم حتى ولو كان ذلك في موجته الخامسة.. تحول الربيع بفعل هذه القوى الشريرة إلى ربيع الخراب والدمار في سوريا، وربيع الفوضى في مصر، وربيع الإرهابيين في ليبيا، وربيع التقسيم في اليمن، وربيع النهضة المسموم في تونس، وربيع التفجيرات في بيروت، وربيع التناحر الطائفي في العراق، وربيع صراع الإسلاميين في تركيا، وربيع النهاية للقضية الفلسطينية، وربيع الاضطهاد لمسيحيى الشرق الأوسط، وربيع الفرجة في إسرائيل على العرب الأغبياء.
في هذا المقال نتناول أحد جوانب هذا الكابوس وهى التفجيرات المتلاحقة في لبنان بوتيرة متسارعة وخاصة في العام الأخير.
في تقديرى أن هناك أسبابا كثيرة لتسارع هذه التفجيرات في لبنان ومن أهمها:
أولا: رغبة القوى السنية بقيادة السعودية في تكوين ميليشيا مسلحة سنية في لبنان تواجه وتعادل ميليشيا حزب الله الشيعى، لكى تكون جاهزة في أي وقت للدخول طرفا في المعادلة السنية الشيعية هناك وأيضا للتدخل في حالة أي مواجهة سعودية إيرانية من أي نوع.
ثانيا: امتداد الحرب الباردة السعودية الإيرانية لتشمل الملف السورى بعد أن كانت مقتصرة على الملف اللبنانى، والمعروف أن هناك تنافسا سعوديا إيرانيا في لبنان منذ عقود، فالسعودية تعتبر نفسها راعية السنة هناك خاصة أن الزعيم السنى الراحل رفيق الحريرى وأبناءه يحملون الجنسية السعودية، في حين أن إيران هي الراعى الرسمى للشيعة ولحزب الله تمويلا وتدريبا وتسليحا وتوجيها.
ثالثا: فرض سياسة العين بالعين والسن بالسن، فتفجير في الشمال يعقبه تفجير في الجنوب وهكذا دواليك، وبعد أن كانت سوريا وحلفاؤها في لبنان هم المسئولين الرئيسيين عن التفجيرات التي طالت شخصيات لبنانية مسيحية وسنية بارزة، أدى ظهور الميليشيات السنية إلى فرض سياسة العين بالعين والسن بالسن، كما أن شبه الانهيار الذي يعانى منه نظام الأسد أدى إلى قدرة الميليشيات السنية أن تدخل طرفا فاعلا في لعبة التفجيرات.
رابعا: انتقال اليد العليا لملف المعارضة السورية من يد قطر ليد السعودية جعل الاستهداف يصل إلى حزب الله وإيران، فقطر لم تكن تريد استهداف حزب الله وإيران نظرا لعلاقتها الجيدة بهما، ولكن السعودية أزاحت قطر بشكل كبير عن قيادة المعارضة السورية وخاصة الإسلامية، والسعودية تحمل عداوة وكراهية شديدة لإيران ما جعل استهدافها شيئا مشروعا، خاصة أن إيران والسعودية يتقاتلان بشكل غير مباشر على الأراضي السورية.
خامسا: دخول حزب الله مساندا لنظام الأسد جعل السنة يحشدون المقاتلين الإسلاميين في سوريا من جميع أنحاء العالم على أساس أنها حربا مذهبية، والدولة صاحبة الخبرة والقيادة في حشد الجهاديين هي السعودية، وطالما أن حزب الله دخل طرفا في الحرب فكان من الطبيعى لهذه الميليشيات أن تستهدفه وتستهدف إيران في مواقعها في لبنان.
سادسا: أحد الكتائب الميليشياوية التي تستهدف حزب الله والشيعة وإيران في لبنان هي كتائب عبد الله عزام، وهذا الاسم ليس غريبا عن السعودية وعن الجهاديين عموما، فعبد الله عزام الفلسطينى الإخوانى هو صنيعة السعودية في أفغانستان وهو أستاذ بن لادن، وهو الأب الروحى للحركة الجهادية في أفغانستان التي تحولت إلى تنظيم القاعدة فيما بعد، والسعودية كانت شريكا أساسيا في خلق هذه الحركة الجهادية في أفغانستان، وتسمية الميليشيات السنية في لبنان بهذا الاسم لها مغزى واضح وهو أننا سننقل المشهد الأفغانى إلى سوريا ولبنان من ناحية وأن السعودية وراء ذلك من ناحية أخرى، ولهذا لم يكن مستغربا أن يكون قائد كتائب عبد الله عزام في لبنان ماجد الماجد هو سعودى الجنسية، وقد قتل مؤخرا في المواجهات مع الجيش اللبنانى.
سابعا: تخلى أمريكا وإسرائيل عن المواجهة العسكرية مع إيران جعل السعودية، كما قال الكاتب السعودى جمال خاشوقجى، إن قدرها أن تحارب إيران وحدها، ومن المعروف أن السعودية حاولت كثيرا أن تدفع بالحرب الإيرانية الأمريكية ولكنها فشلت في ذلك، ومن ثم بدأت تتولى هي طرق مختلفة لمواجهة إيران ومنها الوقوف وراء التفجيرات التي تحدث في المنطقة الجنوبية من لبنان.
ثامنا: الصراع الداخلى اللبنانى هو أيضا جزء من صراع أوسع بين الأحلاف المتناحرة في الشرق الأوسط، الحلف الشيعى بقيادة إيران والحلف السنى المحافظ بقيادة السعودية، والحلف الإخوانى بقيادة تركيا، ولبنان منطقة ضعيفة ومخترقة من قوى الأحلاف الثلاثة.
تاسعا: يجيء الصراع السنى الشيعى كجزء من نتائج ما تسمى بالصحوة الإسلامية التي رعتها السعودية وإيران وباكستان والسودان ومصر، فالخومينى من ناحية وفيصل بن عبد العزيز والسادات وجعفر نميرى وضياء الحق من ناحية أخرى، كل كتلة كانت تتنافس في قيادة هذه الصحوة وخلق ظاهرة الإرهاب الإسلامى عالميا، وكان من نتائج هذه الصحوة هي إحياء الانتماء الدينى والمذهبى وتسيده على الانتماء الوطنى.. اليوم يتقاتل اللبنانيون الشيعة والسنة على أراضى سوريا ولبنان معا، وقد طرح كل منهما انتماءه الوطنى بعيدا لصالح الانتماء المذهبى.
وأخيرا: يصر اللبنانيون بضغوط سورية وبضغوط من حلفائها في لبنان على ربط المفاوضات مع إسرائيل بأن يكون الملف السورى واللبنانى ملفا واحدا، وهذا عطل إبرام معاهدة سلام لبنانية إسرائيلية كما حدث مع مصر والأردن، وهذا أيضا جعل لبنان مرهونا بالعلاقات الإسرائيلية السورية والعلاقات الإيرانية الإسرائيلية، وهذا الربط المصطنع جعل اللبنانيين يفقدون قطار السلام ويلحقون بقطار الإرهاب الذي أغرق سوريا حاليا.
ربيع التفجيرات في بيروت هو إذن انعكاس للوكسة التي أصابت ما يسمى بالربيع العربى في مجمله، حيث إن بيروت هي الترمومتر الذي يقاس به أزمات العرب، فأى طفح جلدى يصيب دولة عربية يظهر جزءا منه على سطح بيروت المدينة المنفتحة والهشة في نفس الوقت.