توفيق الحكيم يكتب: الحديث الأول
هذا الحديث مع الله، لم أر مانعًا من نشره، بإذن الله طبعًا.. فأنت تعرف يا ربي أنه لم يبق لي وأنا في آخر أيامي غيرك، وليس غيرك من أحب الحديث معه، وأن يكون آخر ما أكتب هو هذا الحديث، ولا يسقط القلم من يدي إلا وهو يخط اسمك الأكرم، سبحانك، وأنت الذي أكرمت القلم وأقسمت به، وبإذنك، أسألك أن يكون حديثي في كل شيء شاهدته وفكرت فيه أثناء إقامتي في هذه الدنيا، دون حرج، وأن تقويني على نشره في حلقات أسبوعية، كل حلقة يوم ثلاثاء، ذكرى ابني الوحيد الذي ولد في الشهر الثالث، وتوفي في الثلاثين من عمره، يوم ثلاثاء، والشكر والحمد لك يا من نفسي بيده.
> "ولا يكتمون الله حديثا" قرآن كريم
نعم يا ربي... لن أكتمك حديثًا.. ولم يبق لي في حياتي الآن سوى الحديث معك، فقد عشت الحياة التي قدرتها لي أكثر من ثمانين عامًا، جعلت أهيم خلالها في كل وادٍ، حاملًا قلمًا أملأ به الأوراق بين جد وهزل، ولا أظن أني فعلت بذلك خيرا كثيرا، ولكني أذكرك كثيرا وأتحدث إليك طويلًا، وأعلم أنك تسمعني، لأنك سميع بصير، ولكن الحديث معك ليس بيسير، لأنك عليم بكل شيء، وما أقوله تعرفه، وليس من حقي أن أسألك إجابة أو ردًا، وليس لبشر أن تكلمه أنت إلا وحيًا، ومن أكون أنا حتى تحدثني أنت بالوحي، لن يقوم إذن بيننا حوار، إلا إذا سمحت لي أنت بفضلك وكرمك أن أقيم الحوار بيننا: تخيلا وتأليفا.. وأنت السميع.. ولست أنت المجيب.. بل أنا في هذا الحوار المجيب عنك افتراضًا.. وإن كان مجرد حديثي معك سيغضب بعض المتزمتين لجرأتى -في زعمهم- على مقام الله سبحانه وتعالي، خاصة وحديثي معك سيكون بغير كلفة، أي من القلب الصافي وحده، لا أتكلف فيه صنعة الأسلوب، فأنا سأخاطبك مخاطبة الحبيب لحبيبه، الحب الذي ليس كمثله حب، لأنك أنت ليس كمثلك شيء، وعندما سأل بعض المؤمنين نبيك صلى الله عليه وسلم عما إذا سيرونك في الآخرة لم يرد أن يخيب أمالهم، فلم يقل لهم: كيف ترون من ليس كمثله شيء ؟! وكيف وأنتم شيء أن تدركوا من ليس بشيء ؟!.. وكيف وأنتم بشر ترون بعيونكم البشرية ما لا تراه العيون!؟.. وهل سنبقى في الآخرة بعيون وأجساد بشرية ؟.. أطن أنهم لم يسألوا ذلك.. والقرآن الكريم قد ذكر في سورة الأعراف أن موسى قال "رب أرني أنظر إليك، قال: لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا".
أما أنا، فأسأل وأجيب: إن العالم الآخر عالم مستقل عن عالمنا الأرضي، لن يكون فيه رداء بشري ولا قوانينه هي القوانين الأرضية، وربما قصد العالم أينشتين بقانون النسبية شيئًا كهذا -وهو من العلماء القليلين المؤمنين بالله وليس كبقية العلماء الملحدين- لست أنسى قوله بالنص: "إني أدين بالتبجيل كله لتلك القدرة العجيبة التي تكشف عن نفسها في أضأل جزيء من جزيئات الكون"!.. كما لا أنسى قول العالم المعاصر "كاستلر" الذي يعمل حتى الآن في كشف أسرار "المادة" وألف كتابًا قال فيه: "إننا كلما أوغلنا في دراسة المادة أدركنا أننا لم نعرف عنها شيئًا..
فسوف يظل دائمًا شيء فيها مخفيًا عنا"، فلما سألوه: يكون مخفيًا بمن ؟ أجاب: بالله !.. ثم وصف متاعبه في استمرار البحث بالقوانين المعروفة، إذ اكتشف أنه بعد التوغل إلى أمد بعيد توقفت القوانين عن العمل، وأنه دخل في مرحلة لم تعد تسري فيها القوانين الطبيعية المعروفة في الأرض، مما جعله يسأل نفسه: أترى علم الفيزياء الذي نمارسه ليس في الحقيقة علمًا واحدًا!! أي أنه يوجد علمان كل منهما يعمل مستقلا عن الآخر: علم للمرئيات وعلم للمخفيات.. أو بعبارة أخرى علم للمحسوسات أو لهذه الدنيا، وعلم فيزياء آخر لغير المحسوسات، أي لغير دنيا البشر، أي الآخرة.. وكل منهما له قوانينه الخاصة التي لا تسري إلا على عالمه؟.. معنى ذلك عندي أن انتقالنا إلى العالم الآخر سيضعنا في عالم لا نخضع فيه للقوانين البشرية.. وقد جاءت إشارة إلى ذلك في قرآنك الكريم يا ربي "سورة الطلاق"، حيث قلت في هذه الآية "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن".
وجاء تفسير القرطبي نقلا عن "المارودي": على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض، تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين إن كان فيها من يعقل من خلق مميز.
معنى ذلك أن الأديان نسبية تختص بها أرض دون أرض؛ لأن البشرية نفسها نسبية، وكأنك يا ربي تلمح إلى ما سوف يكتشفه العلماء بعد قرون في شخص أينشتين.
كما أوحيت إلى رسولك محمد قرآنك بقولك: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، والخشية كما فسرها بعض المفسرين ترمز إلى التقدير والإجلال، حتى لقد قال أبوحنيفة فيمن قرأ "إنما يخشى الله" بالرفع أي أن الله يخشى العلماء: إن في هذه القراءة استعارة، والمعنى أن الله "إنما يجلهم ويعظم"..
وسواء كان التقدير والإجلال من العلماء لله، أم من الله للعلماء، فإن هذا المعنى هو أن هناك اتصالًا راقيًا بين الخالق والمخلوق، وهو جوهر العبادة الراقية للعقل الإنساني الراقي، بارتفاعه إلى حيث يدرك قدرة الخالق وعظمته.
وليس أدل على ذلك الإدراك والإجلال من كلمة ذلك العالم "أينشتين" في قوله: "إني أدين بأعمق الإجلال والتعظيم لهذه القدرة العجيبة التي تفصح عن نفسها في كل جزيء من جزئيات الكون".. وكلمة "كاستلر" عندما قال: "كلما أزداد تعمقًا في دراسة تركيب المادة تضاعف اقتناعنا بأننا ما عرفناها.. فإن جزءًا منها سوف يظل إلى الأبد بعيدًا عن تعليلنا لأنه كان مخفيًا عنها.. كان مخفيًا بمن ؟ بالمبدأ الأوحد: الله..".
إن كل ما نعرفه عن العالم المحسوس لا قيمة له في فهم العالم غير المحسوس.. وهكذا حيرة العلم والعلماء اليوم ! كلما توغلوا في العلم اقتربوا من الخشوع لله، وصدق يا ربي ما أوحيت به في قرآنك إلى نبيك ورسولك من أنك تخشى من عبادك العلماء.. ولذلك أعتقد أنه من الطبيعي والمنطقي أن مثل هؤلاء العلماء المؤمنين بك سوف يكون مصيرهم مغفرتك وأنت الغفور.
والعلماء أقدر على إقناعنا بوجودك ووحدانيتك من الفلاسفة الذين لا يعتمدون إلا على لغتهم وحدها، وهي في الغالب عاجزة أو ملتوية
........
ولكن الله في حديثي هذا معه جعل يستمع فقط.. وتركني أواصل.. فقلت: ولكن يا ربي بعض رجال الدين عندنا يرون غير ذلك.. يرون مصير هؤلاء العلماء من غير المسلمين النار؛ لأنهم لم يقولوا لا إله إلا الله شهادة لغوية، مع أن العلماء قالوها بالممارسة وليس باللفظ، ومارسوا قدرة الخالق ووحدانيته في أسلوبه للعجز في خلق الكون وقوانينه التي تدل على أنه الواحد، وأن أسلوبه الواحد في كل جزيء من جزيئات الخليقة لا يمكن أن يصدر عن غيره..
ومع ذلك سبق لك يا ربي في قرآنك أن حذرت من الغلو في الدين "سورة المائدة"، ولم يغفروا، وهم لا يعرفون عنك إلا ما حفظوه من ألفاظ لغوية.. ولن يقدروك قدرك إلا بالاقتراب من أسرار خلقك.. ولن يتسنى ذلك إلا بلغة أخرى.. هي لغة القوانين العلمية.. ولذلك إذا سمحت لي بالتنبؤ فإني أتنبأ بأن رجال دينك في المستقبل سوف يكونوا من بين رجال العلوم.. حتى يقتربوا منك عن طريق أسلوب الخلق وليس أسلوب اللغة وحده.
وأنا آسف يا ربي أسفًا شديدًا ولا اعتراض لي عليك، ولكنها مجرد ملاحظة، ولماذا وأنا أحبك هذا الحب لم تعطني لمعرفتك غير وسيلة اللغة، ولم توجهني إلى دراسة العلم! بل لقد كنت أكره المواد العلمية أرسب منذ الصغر في دروس الحساب!..
بمناسبة الحساب.. يوم الحساب.. هل هذا للجميع ؟ طبعًا.. ألم ترد في القرآن: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون".. يحشرون.. نعم.. إذن هو يوم حشر لهم أيضا!.. لكن يا ربي هل هم لهم أخطاء؟.. طبعًا، يجب أن أعرف ذلك، أليسوا مخلوقات ؟! ما من خلق إلا وله أخطاؤه.. ولكن هل الجميع؟ حتى الأنبياء؟ أعتقد أن الأنبياء معصومون.. معصومون من الفعل، وليس من النية؛ لأن يوسف همت به وهم بها، أي تمت النية ولكنه توقف عن الفعل؛ لأنه رأي برهان ربه، أي تدخلت يا ربي وعصمته عن الفعل، أنت تعصم من تحب عن الفعل، أما النية فهي لصيقة الغريزة البشرية.. وهل هناك حساب على النية؟ طبعًا.. ولكنك غفور.. ولماذا الحساب إذن ؟.. لأنه القانون.. أساس ونظام.. وأنت خالق الكون.. أي فوق القانون.. لا.. بل أنت خالق القانون الذي يتم به تركيب الكون.. فإذا فسد القانون اختل تركيب الكون.. فأنت لست فوق القانون.. ولكنك الحريص عليه؛ لأنه من خلقك، ووليد حكمتك.. فعلًا.. حرصك يا ربي على قانونك هو إرادتك العليا؛ لأن جوهر إرادتك هي الكينونة، هي الكون والوجود.. وخلود الوجود.. ولذلك سلحت كل موجود بأدوات وجوده.. ولنا نحن البشر جعلت يا خالقنا الحبيب أدوات وجودنا: الدين، والعلم، والغريزة.. وما نسميه الغريزة تكونت في أعماقنا منذ القدم.. وتكدست.. وصارت تعمل تلقائيًا مع وجودنا.. وأصبحت قوة لا يصد طغيانها إلا الدين والعلم.. أما إرادتك الإلهية يا ربي فهي التعادلية بين الثلاثة، فلا تطغى قوة على قوة، بل يعمل الكل معًا في بقاء الإنسان داخل نطاق التوزان الكوني والكينونة الكبرى..
وعبادتك يا ربي، التي يجسدها الدين، هدفها الحقيقي ليس الإحسان إليك؛ لأنك قائم بذاتك لا تحتاج إلى أحد ولا إلى شيء، فقد قلت في قرآنك كثيرا: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها"، كما قلت: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها"؛ لأن الله يعلم أن البشر ضعيف ولكي ينقذ وجوده من القوة الطاغية التي لشيطان الغريزة المدمرة يجب أن يستمد قوة الوجود من الله الموجود الخالد، بذكره دائمًا، والاستعانة به ضد قوة الجاذبية الغريزية المفسدة لتركيبه.. فالدين إذن أداة الإنسان.. ولم يوجده الله إلا أداة تحافظ على الإنسان باقيًا ضمن التركيب الكوني الذي خلقه الله بقدرته وإرادته وحرص عليه، فالدين للعابد لنفعه، وليس للمعبود الغني بنفسه.
وبعد.. إني لا أحدثك إلا بما أنت أعلم به مني.. ولكن، أو كان من الممكن أن أحادثك فيما لا علم لك به وأنت يا ربي العظيم العليم بكل شيء.. ولكنك لا تسأم حديثي.. لأنك لا تعرف السأم.. فإنك سميع دائم السمع للغط مخلوقاتك الكثيرة، من أبعد المجرات إلى أصغر الحشرات.
> المصادر:
الأحاديث الأربعة.. والقضايا الدينية التي أثارتها.. توفيق الحكيم