رئيس التحرير
عصام كامل

الأنبا ساويرس.. جبرتي الأقباط

الأنبا ساويرس
الأنبا ساويرس

>> سجل تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية.. ودعاة المعز لدين الله لمناظرة علماء المسلمين
>>رصد سير الآباء البطاركة من البابا مارمرقس الرسول إلى البابا يوساب الـ 52


الاعتراف بالآخر ومعرفته حق المعرفة يرتبط بنبذ العنف وسمات حضارية رفيعة المستوى تحققت عبر تاريخ البشرية وتوثيق الماضي عبر صفحات التاريخ، فإذ كان للأمة جبرتي يدعى عبدالرحمن أرخ تاريخ مصر الحديث، فهناك جبرتي آخر حفر تراث القبط في مصر على جدران الأديرة، نقلها كما هي، ومر بها للشارع المصري ليشهد اضطهاد الرومان ويخلد أسماء بطاركة أحبوا الوطن، وأبى التاريخ أن يناسهم.

الأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونيين وأحد علماء الكنيسة في القرن العاشر الميلادي، ألف أكثر من عشرين كتابًا، حيث جمع الأنبا ساويرس سير البطاركة من دير أبومقار ودير نهيا وغيرهما، ففى كتابه "تاريخ البطاركة" رصد سير الآباء البطاركة من البابا مارمرقس الرسول إلى البابا يوساب الـ 52، ويعتبر هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في تاريخ البطاركة بصفة خاصة وفي تاريخ مصر بصفة عامة.

أكمل مسيرة البطاركة في مجلد آخر بعنوان "بطاركة كنيسة الإسكندرية القبطية"، حيث قام بتسجيل سير البطاركة من القديس مرقس كاروز الديار المصرية إلى البابا شنودة الأول البطريرك 55 " 859 ــ 880م"، ثم جاء بعده الأنبا ميخائيل أسقف تنيس وسجل سير البطاركة من البابا خائيل الأول البطريرك 56 "880 ــ 909م" إلى البابا شنودة الثاني البطريرك 65 "1032 ــ 1046م"، ثم جاء موهوب بن منصور بن مفرِّج الإسكندري وسجل سيرة البابا خرستوذولس البطريرك 66 "1047 ــ 1078م".

كان يتميز "ساويرس بن المقفع" بمجادلاته مع أئمة المسلمين في عصره، حيث كان "المعز لدين الله الفاطمي"؛ مؤسس الدولة الفاطمية -وهو كان رجلًا محبًا لأهل العلم- يدعو "بن المقفع" للمناظرة مع أئمة المسلمين واليهود في حضرته، وبسبب توقد ذكاء "بن المقفع" وعلمه، كانت له علاقات طيبة مع كبار علماء المسلمين، وكان يمزج جلساته معهم بالمرح، ويعتبر "بن المقفع" بلا منازع، أكبر عالِم دين ولاهوت في القرن العاشر الميلادي كله.
ويقول المؤرخون المصريون عن كتاب "تاريخ بطاركة الكنيسة" المصرية لساويريس بن المقفع أسقف الأشمونين: الظاهرة الغريبة أن الأسقف الأشمونى عاش في القرن العاشر ولكنه سيطر على الفكر القبطى بكتابة البطاركة.. إلى حد أن تاريخ الباباوات الذين عاشوا بعده بقرون يرجعونه إليه !!

ساويرس المعروف باسم "أبى البشر بن المقفع الكاتب" أو "أبى البشر جا" ينحصر في ثلاثة تواريخ: نوفمبر 950م، وهو تاريخ تأليفه لكتاب "تفسير الأمانة"، الذي استكمل به كتابه السابق لهذا التاريخ وهو كتاب "المجامع"، وهو رد على كتاب "نظم الجوهر" لسعيد بن بطريق البطريرك الملكانى المقرب للفاطميين، سبتمبر 955م، تاريخ إعادة تفسير كتابه السابق، مارس سنة 987م، مساهمته في تحرير الرسالة المجمعية إلى بطرك السريان، هذه هي التواريخ الأكيدة، وكل ما يضاف بعد ذلك هو اجتهادات تحاول الاقتراب من الحقيقة.

ولد "ساويرس بن المقفع" نحو سنة 915م، من والد لُقب بـ "المقفع"؛ أي المنكس الرأس، أو مَنْ كانت يده متشنجة، فعُرف "ساويرس" بمخطوطة "ساويرس بن المقفع".. تاريخ مصر بعيون مؤرخ قبطي ، تربى "ابن المقفع" أفضل تربية، وجمع بين العلوم الدينية والدنيوية، كما يتضح ذلك من حياته ومؤلفاته، واهتم بالفلسفة اليونانية والعربية، كما درس علم الكلام، فلا نجد مؤلفًا من مؤلفاته إلا وفيه رد فلسفي دقيق.

تدرج في الوظائف في عهد الدولة "الإخشيدية"، حتى أصبح كاتبًا ماهرًا، وكانت رتبة الكاتب وقتئذ رتبة مهمة في الدولة، حتى أن الوظائف التي قام بها الوزير فيما بعد، كان يقوم بها الكاتب في أيام الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، وأصبحت وظيفة الكاتب لها مكانتها في الدولة، ومنها كان يختار كبار موظفي الدولة، وكان من شروطها أن يكون الكاتب متضلعًا في اللغة العربية، وملمًا بعلومها وآدابها وأسرارها، مطالبًا بأن يكون ملمًا بمعلومات عامة في شتى ميادين المعرفة.

بعد أن وصل "ساويرس بن المقفع" إلى أعلى المناصب، تخلى عن وظيفته ليترهب في أحد الأديرة، واستفاد من فترة ترهبه، فقرأ مؤلفات معظم الآباء اليونانيين الكبار من لاهوت وتاريخ وطقس وروحانيات.
ذاع صيته بين المسيحيين فاختاره أراخنة الشعب وبارك الأب البطريرك هذا الاختيار ليكون أسقفًا على مدينة "الأشمونين"، وفي عهده تمت معجزة نقل الجبل المقطم.

ومن الملامح الشخصية للأنبا "ساويرس بن المقفع" أنه كان ملمًا بالكتاب المقدس متعمقًا في فهمه، مما أكسبه مهارة في كثير من الدراسات والمناظرات التي كان يحضرها.

كان على وعي كبير بجوانب الحياة المسيحية، مما مكنه من التعرض لعقائد الكنيسة وطقوسها، موضحًا الأصول الإيمانية لها في نحو عشرين كتابًا -كما ذكر الأنبا "ميخائيل" أسقف تينس- وتعكس هذه المؤلفات العديدة سعة معارفه وتنوعها في مختلف علوم الكنيسة، مما أدى إلى انتشار كتاباته وذيوع صيته خارج مصر، وإجادته اللغة العربية والقبطية واليونانية ساعدته على غزارة علمه.

يعتبر الأنبا "ساويرس بن المقفع" أب التاريخ الكنسي، إذ أوقف جزءًا كبيرًا من حياته على جمع شتات تاريخ بطاركة الكرسي المرقسي من مختلف الأديرة، وخرج هذا في كتاب تاريخ البطاركة من "مرقس الرسول" حتى البابا "شنودة الخامس والخمسين" في عداد البطاركة، وترجم هذا المؤلف إلى لغات عديدة منها اللاتينية والإنجليزية والفرنسية، كما نشرت بعض أجزائه باللغة العربية نظرًا لما له من أهمية، إذ يعتبر من أهم المصادر سواء لتاريخ الكنيسة أو لتاريخنا القومي.

وضع الأنبا "ساويرس بن المقفع" أكثر من عشرين كتابًا، طبع وترجم معظمها إلى لغات كثيرة، وتناول معظمها موضوعات لاهوتية وفلسفية، ومن هذه المؤلفات "مصباح العقل"، و"إيضاح الاتحاد"، و"الدرالثمين في إيضاح الدين"، و"تفسير الإنجيل"، و"البيان المختصر في الإيمان".

ومن أبرز ما ألفه الأنبا "ساويرس بن المقفع" كتاب "تاريخ بطاركة كنيسة الإسكندرية"، والذي يتحدث فيه عن أخبار الطبقة العليا من رجال الدين المسيحي، وعلى الرغم من هذا فإنه يحتوي على الكثير من أخبار الحياة العامة في مصر، وهي أخبار بالغة الأهمية، إذ تكشف الكثير عن حقائق العصر الذي تتعلق به، فوق هذا وذاك كانت مؤلفاته تؤرخ لحقب مهمة في التاريخ المصري القومي العام وهي الحقبة القبطية التي شهد الكثير من المؤرخين المصريون والأجانب أنها لم تدرس بعد الدراسة الواجبة ولم تنشر كل مصادرها، مؤكدين أنها لم تؤلف لربط التاريخ القبطي بالمسحية وأن من لا يرى فيها إلا الناحية الدينية فقط مخطئ، لأنها ألقت الضوء على تفاصيل حياة الشعب المصري على صفحات التاريخ.
الجريدة الرسمية