رئيس التحرير
عصام كامل

نجيب أفندى.. «مشخصاتى» على باب الوطن

نجيب الريحانى
نجيب الريحانى

نجيب أفندي.. عرفناه مشخصاتي –معجونا بالكوميديا– ترك لنا الضحك الهادئ وصورا باللونين الأبيض والأسود فيها، ظل فيها متكئا على يده شاردا فيما وراء شخصيات كشكش بيه وشحاتة أفندي، كذا كان متشردا في سكة السلامة، خفيف الظل حين جرب أن يرتدي كل ما تلامس وأجساد البسطاء في مجتمعه، إنه عاشق ليلى.. أستاذ حمام.. نجيب الريحاني.

رغم أن الفكاهة كانت لعبته على خشبة المسرح وأمام كاميرات السينما ، أضحكنا الرجل كثيرا وأبكي منا من لم ترحه الضحكات، وكل ما تبقى بعد رحيله طابع بريد باللون الأخضر حفرت عليه ملامح الريحاني في عام 1995 مقابل 15 قرشا.

حين دون الريحاني مذكراته عام 1946 نشرت بعد رحيله بعشر سنوات، فالرجل كتبها بلغة سينمائية راصدة لتفاصيل المشهد الكلي، لم يرسم فيها محطات نجاحه فقط، وإنما توقف كثيرا أمام لحظات الإخفاق والتعثر، فهو يرحل بنا من بدايات خطاه ودراسته في مدرسة ألفرير بالخرنفش، وتقلده لوظائف صغيرة وعادية انتهت كلها بــ"الرفت" ليصحبنا في رحلته الفنية المثيرة ويعرفنا على سيد درويش وبديع خيري وعزيز عيد وبديعة مصابني والكثير من رجال ونساء عصره الذين التصق بهم وارتبط بهم في أعماله المسرحية المتتالية، لذا تبدو هذه المذكرات سجلا حافلا لتاريخ المسرح المصري خلال واحدة من أزهى فترات المسرح ازدهارا.
ليظهر بأوجه متعددة، وجه كوميدي ووجه درامي وآخر وطني، بالإضافة إلى أبرز وأهم وجوهه على الإطلاق؛ وجهه الإنساني، الذي حال بين عشاقه ورحلات البحث فيما وراء شخصيته ومعتقده وديانته.

إنها الحقيقة دون زيف عارية تماما، طرحها ممثل درب عشاقه كيف يهذبون ضحكاتهم، نسي تماما وكلنا لم يهتم بأنه ولد لأم مصرية قبطية وأب عراقي قبطي يدعى إلياس ريحانة، وفى حي باب الشعرية عاش طفولته، وهناك عاشر من هم دون مستوى النظر.
الريحاني أثناء دراسته بمدرسة الفرير الابتدائية، وهي مدرسة لغتها الرسمية الفرنسية ظهرت عليه ملامح الانطوائية مما ساعد في اكتشاف موهبته بسهولة بعد أن رسخت ملامح الروح الساخرة في شخصيته، والحقيقة كان الريحاني يسخر بخجل أيضا، وبعد أن حصل على شهادة البكالوريا، التحق بوظيفة كاتب حسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد.

وكان لهذه الوظيفة البسيطة والتي كان نجيب الريحاني يتقاضى منها راتبا شهريا ستة جنيهات، لم تشبع رغبته فاستقال منها وعاد إلى القاهرة ليجد أن الأمور قد تبدلت، وأصبح الحصول على عمل في حكم المستحيل، وأصبحت لغته الفرنسية التي يجيدها غير مطلوبة، وظل الرجل هكذا إلى أن قادته قدماه إلى شارع عماد الدين الذي كان معروفا بالتياتروهات والصالات الليلية آنذاك، وهناك قابل صديقا له كان يعشق التمثيل اسمه محمد سعيد وعرض عليه أن يكونا سويا فرقة مسرحية لتقديم الإسكتشات الخفيفة لجماهير الملاهي الليلية.

معظم أعمالة كانت مسرحية، ولا يوجد منها نسخ مصورة كاملة، على عكس أفلامه التي يوجد منها ستة أفلام يعتبرها بعض المهتمين بالسينما من أعمق ما قدم في السينما العربية من ناحية التركيبة السيكولوجية الساخرة المضحكة الباكية المتمثلة في الممثل نجيب الريحانى، ويعتبر مشهد المدرس الذي يخرج ما في جيبه أمام الباشا الذي اتهمه بسرقة عقد وإخفائه في منديله، فيخرج الريحانى المنديل قائلا فيما يشبه الرثاء الذاتى "ده لو دخل العقد في المنديل من هنا لازم يطلع من هنا" في إشارة لفقره المدقع الذي يجعل حتى منديله مثقوبا، يعتبر مشهدا خالدا في السينما المصرية ربما يعلق بأذهان ممثلين ونقاد حتى اليوم.

الريحاني الذي قدم عشرات المسرحيات والأفلام أهمها: "الستات مايعرفوش يكدبوا، حماتك تحبك، الدنيا على كف عفريت، صاحب السعادة كشكش بيه، حوادث كشكش بيه، ياقوت أفندي، بسلامته عايز يتجوز، سلامة في خير، أبو حلموس، لعبة الست"، توفي أثناء تمثيله فيلم "غزل البنات" عام 1949 فتم تعديل نهايته قسرا، تاركا لنا علاقته بالمبدع بديع خيري، فالأخير كان صديقه وتوأم روحه وعاشا معا تجربة مسرحية سينمائية أثرت الحياة الفنية بأكملها، وخلال رحلتهما كان خيري دائما يعمل كجندي مجهول لم تصبه الغيرة ولو لمرة واحدة من تلك الأضواء المسلطة على صديق عمره، لم يختلفا أبدا وكانا أصدقاء لا يفترقان لدرجة أن الناس اعتقدت أن بديع خيري مسيحي بمن فيهم الريحاني نفسه، وحين ماتت والدة بديع ذهب الشيخ محمد رفعت للعزاء فاكتشف أنه مسلم، فقرأ القرآن في المأتم وعند خروجه وجد الريحاني فأخبره أن بديع مسلم، فذهب الريحاني لبديع وتبادل القفشات والضحكات الساخرة.
كذا كان من أصدقاء الريحاني، الموسيقار سيد درويش، وعبدالفتاح البارودي.

الريحاني عشقه الشعب وأخلص له أصدقاؤه ولم يواجه العداء إلا من الملك فاروق، فكانت هناك حالة كراهية شديدة من جانب الملك لشخص نجيب الريحاني، فبعد وفاة الريحاني عام 1949 كان مسرحه يحمل اسم "ريتس" وكان يمثل عليه يوسف وهبي في البداية حتى أنشأ مسرحه "مسرح رمسيس" بعد ذلك صدر أمر ملكي بتحويل ريتس إلى مسرح الريحاني، لأن رئيس الديوان الملكي آنذاك أحمد حسنين باشا كان يحب الريحاني حتى أنه أرسل إلى أمريكا ليجلب له حقن تشفيه من مرض التيفود لكن الريحاني مات بعد وصول ذلك العقار.
الجريدة الرسمية