رئيس التحرير
عصام كامل

مصر وثورة النفس


نعم الثورة الحقيقية في مصر كانت على النفس، على القديم والمتهالك في أعماقنا، لم تكن ثورة تدمير بل هي ثورة بناء وتجديد، قامت بها نفوس حائرة تشعر بالجوع والعطش وتخشى الغد المجهول، فتفجرت ثورة المصالحة مع النفس وابتسمت مصر في داخلنا جميعا وتدفقت الحرية المتسامحة من طاقات الغضب الكامن فينا فانكشف غطاء الاستبداد والفساد وصار مفضوحا مكشوفا من الجميع مما جعلنا نقف أمام أنفسنا بموضوعية مصقولة بالعاطفة والمشاعر، وأدركنا أنه يجب أن نتحرك إلى الأمام في درب الديمقراطية وتحت وطأة الوقت والاعتبارات السيادية...


تحركنا، تحركنا دون أن ندرك أن الوحش المتلون ما زال يكمن في خرائب المجتمع وما زال يراقب ثورة التطهير التي بدأت في ٢٥ يناير واكتملت في ٣٠ يونيو، وتحرك الركب الديمقراطي ولم نر ذلك الوحش الذي قفز إلى داخل الركب مرتديا ثوب الحملان وتظاهر بمعرفة الله وخوفه وأخذ ينادي ويبشر الناس بأنه يملك مفاتيح الخلاص، فاقترب منه بعض المصريين وفي قلوبهم أمل الخلاص، فأخذ الثقة وتربع على عرش مصر لمدة عام واحد كشف فيه عن نفسه وظهر وجهه الشيطاني ودوافعه الغادرة تجاه مصر.

وهنا كانت الصدمة التي بطشت وأطاحت بأحلام الحرية والتسامح وجعلتنا نرى بوضوح أننا نواجه عدوا صريحا يريد أن يهتك عرضنا ويمزق أوصالنا الحضارية فنتغير ويموت وجه مصر، ويموت معه التاريخ والمفردات والمعاني والقيم المصرية العريقة التي جعلت من مصر سيدة العالم لأكثر من ثلاثة آلاف عام ولا تزال متفردة، وأدرك العقل والضمير المصري العام مدى خطورة هذا العدو ومدى دهائه، وعند هذه اللحظة ولدت الثورة الثانية في داخلنا وأخذت تغلي وتتكتل إلى أن انفجرت بالفعل في وجه الوحش يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وكان لابد من قمعه والسيطرة على أنيابه الفتاكة وليس في طبيعة الشعب المصري أن يقاتل بالنيابة عن جيشه الذي هو منه ولم ينفصل يوما عنه ولم يحدث أن قاتل جيش مصر من أجل شعب آخر غير المصريين.

هذا الجيش الشريف الذي لم تدنس يداه في جريمة الجيوش المرتزقة التي اجتاحت العالم في العصور الوسطى، وبرجاحة النسور استل المقاتل المصري سيفه ووقف يقاتل الوحش وحده واختبأ الشعب المصري كله خلف هذا المقاتل الشريف ودارت المعركة وكان العدو حامي الوطيس ومعاندا بقوة حتى مفرق النفس إلا أن الجيش المصري العظيم كان واقفا بالمرصاد وتغلب على وحشية وهمجية الإخوان وتم القبض على رأس الأفعى محمد مرسي وقضى على التجمعات المسلحة التي شابت لها الرءوس في رابعة العدوية والنهضة لكن بعد أن دفع الشعب المسالم من أمنه وراحته الكثير وانتشرت الدماء في الشوارع البريئة منها وغير البريئة.

وسمع الصراخ في البيوت وبين الأسر البسيطة وتمكن الهلع من الجميع إلا أنه عبر كالكابوس الثقيل، وتنسم المصريون الصعداء وعبر الجيش الباسل بشعب مصر عبورا عظيما لا يقل عن عبور أكتوبر المجيد، واليوم نعيش جميعا في ترقب لأن المعركة لا تزال مستمرة ولكنها قد حسمت إستراتيجيا والباقي ما هو إلا توابع بسيطة سوف تنتهي تدريجيا لكن علينا جميعا أن نعلم هذا الدرس لأولادنا ولكل الأجيال القادمة ليعلموا أن مصر ثارت على نفسها وتصالحت مع أوجاعها وهي اليوم في طريقها إلى مستقبل الأمل الذي ولد في داخلنا مع الخامس والعشرين من يناير واكتمل بنصر الثلاثين من يونيو التاريخي.. "عاشت مصر".
الجريدة الرسمية