مفاهيم لا أيقونات
ما يمكن رصده بسهولة الآن من ظواهر فكرية وسياسية فى عالمنا العربى ليس من إفراز اليوم أو حتى البارحة، فقد تنامى واستطال خلال عقود، لهذا تبدو معالجته أو المقاربات الأكثر رَواجا إعلاميا لتوصيفه وتحليله كأنها تبدأ من الصفر وليس من رقم ألف، لهذا تبقى محكومة بالنقصان والتقصير، وتظل أسيرة النتائج بمعزل عن المقدمات والأسباب.
من تلك الظواهر الحديث المتواصل وبإلحاح درامى عن الديمقراطية ومشتقاتها السياسية، بحيث تُصور على أنها أيقونات، أو أنْصاب، وهى بهذا التصور تصبح غايات لأجلها فقط وليست وسائل تم تجريبها ونجاحها وفشلها فى التاريخ، ففى بلد يزهو بالديمقراطية كبريطانيا يُنسب إلى أبرز رئيس وزراء فى تاريخها المعاصر، هو تشرشل أنه قال بأن الديمقراطية شر لابد منه، وكأنه يستعير عبارته من الخطيب الرومانى شيشرون الذى قال بأن الزواج شر لابد منه، لهذا علينا أن نتفق أولا ولو بشكل تقريبى أن الديمقراطية فى بعض التجارب تبرأت من بعض إفرازاتها ومنتجاتها الدكتاتورية كما حدث فى ألمانيا النازية، وإذا قيل ذات يوم خصوصا بعد الثورة الفرنسية إن هناك جرائم ارتكبت باسم الحرية فإن الديمقراطية كشعار لم تكن بريئة من جرائم مماثلة، خصوصا إذا تعرضت إلى اختزال كما يحدث الآن، بحيث يكون حزب أو تيار ما ديمقراطيا لا يكف عن التبشير بمحاصيل وخيرات الديمقراطية إذا كانت لصالحه فقط لكن ما إن تُهدد سلطته حتى تصبح شرا خالصا.
والمفاهيم الكبرى فى التاريخ لا تخضع لمثل هذه الانتقائية أو الرغائبية، فإما أن تقبل كما هى وبحذافيرها أو لا تُقبل. لهذا ما من نصف ديمقراطية أو ربع شفافية أو ثلث فساد، إلى آخر هذه النسب المئوية التى تنتهى بنا إلى تحويل أوطان إلى كسور عَشْرّية، ومن الناحية السايكولوجية فإن أى مكبوت مزمن سواء كان نفسيا أو اجتماعيا يتحول إلى غاية مكتفية بذاتها، وذلك على سبيل تصفية الحسابات مع هذا المكبوت المزمن، والكلام عن الديمقراطية والحرية هو نقيض الكلام منهما ومن داخلهما، لأن الأول توصيفى واحتفائى، أما الثانى فهو تحليلى ونقدى، لكن الإفراط فى التعويل على وسائل باعتبارها غايات وأهدافا نهائية من شأنه أن يفضى إلى إحباط ومسلسل من الصدمات، وقد يكون ما قاله محمد حسنين هيكل قبل عشرة أعوام فى محاضرة بالجامعة الأمريكية فى القاهرة مناسبا الآن لفض الاشتباك بين ما سماه زهو الكلمة وقدرة الفعل، فأحيانا تتولى البلاغة مهمة التعويض عن مفقودات جوهرية فى حياتنا وواقعنا، وأسوأ ما يمكن أن يحدث هو تحويل الوسائل إلى غايات، بحيث تصبح حتى المفاوضات من أجل المفاوضات والحوار من أجل المزيد من السّجال، فمتى نغادر الكتابة عن الظواهر من خارجها لنكتب منها؟
نقلا عن الخليج الإماراتية.