رئيس التحرير
عصام كامل

المترو الشرعى 2


اندهش الرجل من ردى وانطفأ نور التقوى المنبعث من وجنتيه، حتى إن زبيبة الصلاة تبدو وكأنها طارت من أعلى حاجبيه إلى ما شاء الله.. أستغفر الله العظيم.. إهمال والحمد لله مش التزام.. ربنا يهديك ربنا يهديك أنت وأمثالك ".. قالها لى وهو لا يعرف أن عبارة "أنت وأمثالك" على وجه التحديد قد تدفعنى لفتح بالوعة الألفاظ الخارجة المحشورة بحلقى ولكننى تمالكت نفسى وابتسمت.

قلت له: ممكن أعرف بس حضرتك تقصد مين بأمثالى؟
أجاب بحدة: العلمانيون.. شكلك كده منهم ما هى دى الدقن الفالصو بتاعتهم!
سبحان الله.. كانت الذقن من خمس دقائق فقط "سيماهم"، والآن أصبحت علمانية! ما علينا ولكن حضرتك تعرف إيه عن العلمانية؟ يعنى إيه علمانية؟ وليه قلت عليا علمانى؟ ظرفته هذا السؤال الثلاثى منتظرا إجابة.
لحظة صمت أعقبها قليل من اللجلجة، كثير من القلقلة والمأمأة ثم فتح الله على حافظته وقال: العلمانية إن حضرتك وأمثالك ترفضوا شرع ربنا واحنا نقولكم حاضر ونعم، العلمانية إنكم تسقطوا رئيس منتخب شرعى لمجرد إنه حافظ للقرآن وملتح، العلمانية إنكم تجيبولنا الخاين العميل البرادعى اللى بيبوس العاهرات الأجنبيات فى الصور عينى عينك علشان يحكم دولة إسلامية.. العلمانية..

باااااااااااااااااس بس ياعم الحاج.. بالراحة على نفسك.. قلتها له وأنا أربت على كتفه لأهدئ من زمرة انفعاله.. بص يا حاج سيبك من إن العلمانية ملهاش علاقة بكل الحوارات اللى حضرتك قلتها، وسيبك برضة من إنها تعنى فصل الدين عن السياسة، وسيبك كمان من أنها تعنى عدم إجبار الدولة لأى مواطن باعتناق مذهب محدد عملا بالآية الكريمة "لكم دينكم ولى دين".. أرجوك سيبك من كل ده، أنا عايز أعرف حضرتك بتقول عليا علمانى ليه؟ صمته للحظات كشف عن خجل حاول مداراته بالنظر إلى ناحية أخرى.. كان بقية الركاب من الملتحين والمحلقين يتابعون الحوار بشغف.. بعضهم ينتظر انتصار الشيخ على داعى العلمانية الداعر الماثل أمامهم.. هنا رد قائلا: أنا والله ما اتهمتك بحاجة ولا أقصد بس انت سخرت من الدين وأنا انفعلت عليك.
قلت له: بالعكس أنا لم أسخر من الدين ولا أجروا، لأنى مسلم زى حضرتك مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.. أؤدى فروضه وأعصيه وأستغفره وأتوب إليه، أحبه وأخشاه وأتذكره وإن كنت كثيرا ما أغفل عن ذكره وأنساه.. أنا بشر والبشر لا يحق لهم الحكم على بشر مثلهم، السياسة بس هى اللى خلتنا نقيم بعض ونكفر بعض ونحارب بعض مش الدين.
ظل الرجل صامتا متأملا، بينما كان أحدهم مستعدا لاقتحام الحوار.. توقف المترو فى محطة جمال عبدالناصر.. حييته بتحية الإسلام وغادرت العربة.. كان يتملكنى شعور غريب بينما الرجل يتابعنى من نافذة العربة وأنا أسير على الرصيف.. ربما كان يتصور أننى أسبه فى سرى بينما كنت أتامل اللوحة المكتوب عليها اسم جمال عبدالناصر بالبنط العريض، وتخيلت لو أن تلك اللوحة قد تحمل فى يوم ما عبارة محطة "حازم صلاح أبوإسماعيل".. فى هذه اللحظة تحديدا ووسط الحر والزحام والزخم وصوت عجلات المترو وهى تحتك بالقضبان هبطت على رأسى الحقيقة العلمية الوحيدة التى خرجت بها من هذه الرحلة: المصريون العظماء يطلقون عبر أنفاق المترو يوميا كمية من الغازات السامة تعادل ما أنتجه الشرق الأوسط من أسلحة بيولوجية على مدار نصف قرن.
الجريدة الرسمية