«الأكراد.. مصر تحتضنهم وتركيا تلفظهم».. الفارون من سوريا ضحايا جدران أردوغان العازلة.. صلاح الدين قائد كردي على أرض النيل.. شوقي والعقاد وسعاد ونجاة حسني أبرز النماذج.. أنقرة تسير على خطى تل
تتجلى "ثقافة الأسوار الفاصلة والجدران العازلة" في ممارسات السلطات التركية ضد الأكراد سواء داخل تركيا أو في المحيط الإقليمي وخاصة في سوريا وعلى نحو مثير للأسى والأسف، وتحديدًا مع تناقض هذه الممارسات مع الشعارات التي ترفعها حكومة رجب طيب أردوغان.
والأكراد وإن اختلفوا عرقيا عن العرب فهم تاريخيا وثقافيا وحضاريا في "حالة توأمة مع الأمة العربية" ومكون أصيل في العالم الإسلامي ولا حاجة لاستدعاء نموذج البطل صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر القدس وهو كردي الأصل.
وبلد مثل مصر عرف أسماء مبدعة في مجالات عديدة من بينها الفكر والكتابة والفن تنحدر من أصول كردية مثل أمير الشعراء أحمد شوقي وعملاق الفكر عباس محمود العقاد والمفكر قاسم أمين والفنانة الراحلة سعاد حسني واختها المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة.
وإذا كان "الأكراد في مصر والعالم العربي" موضع اهتمام ثقافي يتجلى في كتب تصدر من حين لآخر مثل كتاب "الأكراد في مصر عبر العصور" لدرية عوني ومحمود زايد ومصطفى عوض فإن ممارسات رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية في حق الأكراد ببلاده وفي سوريا الجريحة يلفت لثقافة أخرى مغايرة تماما لثقافة مصر القائمة على الانسجام والاستيعاب والتنوع، وهى ثقافة "الأسوار الفاصلة والجدران العازلة".
والتاريخ الثقافي توقف طويلا أمام سياسات الجدران العازلة والأسوار الفاصلة وأشهرها في الذاكرة العالمية سور برلين الذي كتب سقوطه في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تاريخا جديدا للعالم ونهاية للحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والشرق السلطوي المتدثر بشعارات اشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.
و"الجدران العازلة" تدخل بامتياز في صميم السياسات القمعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ولعلها المفارقة أو الفارق الكبير بين "السياسات المعلنة والسياسات الفعلية" أن تتبنى حكومة أردوغان الآن سياسة الجدران العازلة والأسوار الفاصلة!
بالفعل هى مفارقة من مفارقات المرحلة الملتبسة التي حارت فيها بعض الأذهان جراء الخلط ما بين السياسات المعلنة والسياسات الفعلية، وها هى كلمات احتفظ بها القاموس السياسي- الثقافي الإسرائيلي وخاصة اليمين الشاروني مثل "الأسوار والجدران والأسلاك الشائكة والحواجز ونقاط التفتيش والمعابر"، تنتقل بصورة لافتة للقاموس السياسي- الثقافي التركي جراء ممارسات حكومة أردوغان مع الأكراد رغم كل ادعاءات رئيس الوزراء التركي حول الحرية والعدالة والحق.
إنها حيل "التعابير القدسية التي تستغل البراءة مخلوعة عن مضامينها اللغوية ومعزولة عن ظروفها وسياقاتها التاريخية والثقافية الحقة، ومن ثم فهى تسقط عند أول اختبار موضوعي عندما تتجرد من أقنعتها فلا يبقى سوى القمع والقبضة الحديدية والشراسة اللامحدودة مع إعلاء الأسوار الفاصلة وتشييد الجدران العازلة ضمن الخيارات البائسة"!
وواقع الحال أن هذه السياسات التي تقمع أيضا الحقوق الثقافية للأكراد في تركيا تعيد للأذهان "الفارق الكبير بين الدولة القوية والدولة الشرسة"، فالدولة القوية لا تخاصم الديمقراطية الحقة ولا تنتهك حقوق الإنسان ويستمد نظام الحكم فيها شرعيته من الرضا العام لكل مكونات المجتمع.
أما الدولة الشرسة فتعتمد على القمع وإخضاع كل مكونات المجتمع بالقبضة الحديدية وفرض الوصاية على الشعب وردع الأصوات المغايرة والتعامل مع البيئة المحيطة بالأسوار العالية والجدران العازلة.
فمع تصاعد العمليات العسكرية وممارسات القتل والذبح في سوريا، كان من الطبيعي أن يبحث الأكراد في هذا البلد المشتعل بجحيم الحرب عن ملاذات آمنة لدى بني جلدتهم من أكراد تركيا وأيضا في العراق.
وإذا كانت حكومة إقليم كردستان العراق لم تغلق الأبواب في وجوه الأكراد الفارين من جحيم الحرب في سوريا، فإن حكومة رجب طيب أردوغان لم تكتف بإغلاق الأبواب وإنما قررت إقامة الأسوار العالية والجدران العازلة على الحدود مع سوريا لمنع دخول هؤلاء الأكراد أراضي تركيا.
سياسة الجدران تتجلى في ذلك الجدار الذي تتحرك السلطات التركية لإقامته على الحدود ما بين مدينة نصيبين بتركيا ومدينة القامشلي السورية التي تضم تجمعات سكانية كبيرة من الأكراد، بينما يوضح الناشط الحقوقي دارا حسن أن المزيد من الجدران ستقام بالمناطق الحدودية عند محافظة الحسكة السورية وبلدات مثل رأس العين والدرباسية.
وشرعت عائشة كوكان رئيسة بلدية نصيبين في إضراب عن الطعام احتجاجا على السياسات القمعية لحكومة أردوغان حيال الأكراد، فيما تقول الناشطة الكردية همرين خليل: إن "الجدار لن يستطيع الفصل بين أبناء الشعب الواحد"، مضيفة في تصريحات صحفية "أن هذه الممارسات لم ولن تفلح في تمزيق وحدة الشعب الكردي المتعطش للحرية ونيل حقوقه المسلوبة".
وفي الاتجاه ذاته قال الناشط الكردي هيثم محمود: "نستنكر بناء هذا الجدار من جانب الدولة التركية التي تسعى لفصل الشعب الكردي"، فيما رأى زميله محمد عمر أن "الجدار والأسلاك غير قادرة على الفصل بين أبناء الشعب الواحد".
وإذا كان الجدار العازل الإسرائيلي وكل مرادفاته ومشتقاته في القاموس السياسي- الثقافي من أسوار وحواجز وأسلاك شائكة لم تؤد لاستسلام الشعب الفلسطيني أو تخليه عن نضاله من أجل حقوقه المشروعة، فإن الأمر يبدو مشابها في قصة تركيا، أردوغان والأكراد.
بالتأكيد فإن الأكراد في تركيا لم ولن يوافقوا على هذه الإجراءات ذات الطابع القمعي والانعزالي والتي ترجع لدوافع سياسية تتعلق بالصراع بين حكومة أردوغان وحزب العمال الكردستاني، فيما تقول عائشة كوكان رئيسة بلدية مدينة نصيبين والقيادية في حزب السلام والديمقراطية: إن سكان المدينة يرفضون إقامة هذا الجدار.
تماما مثلما رفضوا قيام السلطات التركية بإغلاق المعبر الواصل ما بين نصيبين والقامشلي، وفندت عدة منظمات غير حكومية من منظمات المجتمع المدني في تركيا الحجج التي تتذرع بها حكومة أردوغان لإقامة الجدار الفاصل ما بين نصيبين والقامشلي وهى ذرائع من قبيل: وضع حد لعمليات التسلل ودخول تركيا بصورة غير مشروعة وتهريب الأسلحة.
وإذا مضت الحكومة التركية في إقامة هذا الجدار بعد إغلاق المعابر الرسمية فإنها بذلك ستهدد في الصميم أبسط متطلبات الحياة لنحو 700 ألف نازح أغلبهم من الأكراد في المناطق السورية المتاخمة لتركيا لأنهم يعتبرون مدينة نصيبين شريان الحياة الذي يوفر لهم المتطلبات الأساسية من غذاء ودواء.
ومن هنا فالبعض يسميه "جدار العار"، وها هى صحف ووسائل إعلام تؤكد أن أوضاع البشر من اللاجئين بعيدة عن اهتمامات حكومة أردوغان، فيما كتب على الأكراد أن يدفعوا الثمن دوما لكل أزمة تندلع في المنطقة.
كأن منطقتنا كتب عليها أن تكون أرض المأساة وأن تعاني شعوب ومكونات أصيلة لها مثل الفلسطينيين والأكراد جراء ثقافة التعصب والاحتكام للقبضة الحديدية والجدران والأسوار، فإذا بتاريخ المنطقة هو إلى حد كبير تاريخ الفرص الضائعة وجغرافيا الطرق الالتفافية على الحق بقدر ما هى مغذية للمرارة وصانعة لدروب الآلام فيما الظلم لا يكف عن الزئير.
والمثير للتأمل أن حكومة أردوغان لم تغلق سوى المعابر الواقعة في المناطق التي تتمركز بها غالبية كردية بينما يستمر العمل في بقية المعابر الحدودية على طول الحدود التي تمتد لـ 900 كيلومتر في استهداف واضح للأكراد الذين يتعرض من دخل منهم تركيا لحملات ترحيل وإبعاد جماعي.
أسقطت مصر الخيارات البائسة ورفض شعبها أن يكون الظلام والظلم قدر المنطقة أوتتحول إلى مستنقع ظلامي يولد وحوشا تلو وحوش في سدة الحكم فاستحقت مصر وشعبها غضب الطغاة وكيدهم.. لكن مصر أكبر وأسمى من جدران الكراهية وأسوار الضغينة.. قدرها أن تبدع الأشعار باقية ما بقى الزمان والمكان تصنع الحرية والتسامح والكبرياء.