دستور بلا حقوق .. مرفوض
أخشى أن يتحول دستور مصر الجديد إلى ورق "داتش" لا قيمة له بمرور الزمن، بعد تزايد الجدل حول مواد خلافية يتنازع عليها ممثلو السلطات اختصاصاتهم ويتعارك أصحاب اللحى مع "الروشين" من أتباع "المدنية" وتتضارب الادعاءات حول تحصين المؤسسة العسكرية ورموزها، فيما يجرى تجاهل أمرين هامين، أولهما فلسفة صياغة الدستور والمحتوى الاقتصادى للدولة، والثانى باب الحقوق والحريات العامة والخاصة.
ولا أتصور أن مجالاً اتسع للحديث حول رؤية القائمين على صياغة الدستور لهوية مصر الاقتصادية وتوجهها، مقابل التشاجر على "إسلامية ومدنية"، ليتكرر نفس الخطأ الذى سرنا فيه قبل عامين وهو سبب قيام الثورة، وهل أدت إليها سياسات حكم رأسمالى طفيلى قادته البيروقراطية المصرية مدعومة بمن خلعوا بزتهم العسكرية ليمارسوا مع قوى تدعى المدنية وأخرى تمارس الفاشية الدينية بامتياز، أبشع أنواع الفساد السياسى والاستبداد الاجتماعى والانحياز الاقتصادى ضد مصالح وحقوق الشعب المصرى، داخل أروقة الحكم والأحزاب الورقية والتنظيمات السرية.
ومن غير المقبول أن يُبنى دستور مقنع لغالبية مهمشة فى ظل سياسات حكومة انتقالية سلبت لنفسها صفة التأسيسية دون أن يحصل مطحون واحد على استحقاقات ثورية بعد 3 أعوام من التضحيات، ولا يتصور أن يقتنع مضار من تغييب حقوقه بقيمة دستور يظهر فى ظل أزماته المستمرة، حتى يكون تصويته عليه تأييداً لاستقرار وتطور وتغيير، وليس لإعادة إنتاج نفس الأوضاع السابقة مجدداً، وهى الحالة التى سيعاد معها الاستقطاب المشابه لما جرى فى استفتاء 19 مارس 2011 واستفتاء دستور الغريانى الإخوانجى فى ديسمبر 2012 .
أما الأكثر قلقاً فى حديث صياغة الدستور فهو رؤية لجنة الخمسين لباب الحقوق والحريات، والتى باتت معها السياسية والمدنية معضلة مع أصحاب التوجه الاشتراكى ذوى الوجهة القاصرة على حدود الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والأخيرة لن تكون فلسفة صياغة الدستور وطغيان الرؤية الليبرالية داخل اللجنة ذات أثر كبير معها على إنتاج مواد حاسمة فى إنصاف المضارين من سياسات فاشلة أنتجت عبثاً اقتصادياً وشتاتاً اجتماعياً وفقدان هوية ثقافية، انتهت معها قيمة كل شىء "عام" رغم استمراره.
وإذا كانت حريات التعبير والتظاهر والتنظيم وغيرها أساسية فى أى دستور مأمول لشعوب ودول ما بعد الثورات السلمية، فحقوق السكن والعمل والعلاج والتعليم وغيرها لا يمكن التعامل مع صياغتها بألفاظ مطاطة أو موجزة تحتمل التأويل، لضمانها للكافة دون النظر إلى سياسات وتوجهات الحكومة المقبلة أو طبيعة الأغلبية البرلمانية ورؤيتها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية.
هناك فئات شتى غابت أو جرى تغييبها عن لجنة صياغة الدستور لا أستثنى منها منتمين لقوى سياسية، سكان العشوائيات والتنظيمات العمالية والمهنية غير الممثلة رسمياً والمجموعات والجماعات الاجتماعية حديثة التنظيم والتكوين بعد ثورة 25 يناير، والقطاعات المنتمية لمجتمعات بعيدة عن مركز الحكم، بخلاف المهاجرين للخارج والمتباينة رؤى أغلبهم بشأن طبيعة الدستور طبقاً لتغير قناعاتهم المتأثرة بمجتمعات جديدة باتوا جزءاً منها ولو مؤقتاً.
لا أتمنى خروج دستور غير معبر عن حقوقى وكل المختلفين معى، ولن أقبل بدستور يجعل واجباتى والتزاماتى أدنى أو أعلى من بنى وطنى، إنه اختبار الضمير الذى سيفرز الفارق بين معسكرات شتى داخل الوطن الواحد الآن، فالمعركة ليس أساسها مدنية ودينية الدولة وتنازع السلطات والحصانات والصلاحيات، ولكن الحقوق والحريات ومحتوى الدولة الاقتصادى الذى يعيد بناء مجتمعها على أسس العدالة والمساواة ويضمن للجميع العيش والحرية والكرامة.