رئيس التحرير
عصام كامل

العاهرة المستديرة


منذ أن وجد الإنسان على الأرض وهو يصارع من أجل البقاء تارة ومن أجل السيادة والنفوذ تارة أخرى، ومنذ أن ظهرت المجتمعات البشرية وتكدست النفوس داخل المدن وخلف الأسوار، هنا كان الميلاد الحقيقى لوحشية ودموية النفس الإنسانية، فصار الصراع أمرا ضروريا وملحا لضمان بقاء التوازن المجتمعى مستقرا ساكنا .



وقد فطن الحكام والملوك لهذه الحقائق وأدركوا مدى أهميتها وحتميتها لبقاء عروشهم وسلطانهم فى مأمن من غدر الزمان، وقد تجلت هذه النظرية بوضوح مع اعتلاء الرومان لعرش السيادة العالمية، فقاموا بمزج التنافس والصراع بالقتل والدماء حتى أدمن الناس هذه الفكرة الشيطانية وأصبح الاستمتاع بالدماء والقتل هو الغاية والهدف .

وقد أمعن الإمبراطور فسبازيان وقام ببناء أول ملعب بالمسمى الحديث فى العالم ألا وهو الكلوسيوم الذى كان فى حقيقة الأمر قطعة من جهنم، تسال فيه الدماء أنهارا كل يوم بلا رحمة وبلا توقف، وكلما ازدادت الوحشية كلما ازداد الناس فرحا وتهليلا وتبجيلا للإمبراطور، وبسرعة البرق انتقلت هذه الفكرة وانتشرت فى جميع أنحاء العالم القديم ودون استثناء، فتشبعت الشعوب بها وأدمنتها مع مرور الزمن، حتى صار منظر الدماء والقتل الوحشى جزءا أصيلا من مظاهر التحضر والمدنية ورفاهية الحياة!!

وهكذا استمر الحال لأكثر من ألف سنة يستمتع الإنسان برؤية الصراع الدموى تحت مسمى "التنافس"، إلى أن بدأت هذه الحيلة تنهار رويدا رويدا حتى وصلت للانقراض مع السنوات الأخيرة من سقوط الإمبراطورية الرومانية، وهنا عاد الفرح من جديد وعادت الحاجة الملحة تضرب أعناق الملوك والحكام فى أوربا البربرية فى ذلك الحين، فبعثت هذه الفكرة ولكن بصياغة مختلفة هذه المرة .

فبدلا من أن يلتف الناس حول المجتلد ويشاهدون الصراع، التف الناس حول العقيدة وبدءوا يشاركون فى الصراع تحت مسمى حماة الصليب وكانت النتيجة واحدة، أنهارا من الدماء وضحايا وأسرى بالألوف مع عروش مستقرة بعيدة عن دائرة التهديد، فنتج عن ذلك ظهور عائلات صغيرة تحكمت وملكت العالم أجمع تقريبا، ومع انتهاء عصر النهضة والثورات الفكرية انطفأت الشمعة فظهرت الحاجة الملحة مرة أخرى وكانت الإمبراطورية البريطانية هى صاحبة المبادرة الأولى.

فأخذت العبقرية الإنجليزية المستبدة بطبعها تفكر وتبحث حتى وجدت ضالتها فى " كرة القدم " أو "العاهرة المستديرة" كما يجب أن يطلق عليها، فهى ولدت من رحم الكولوسيوم والتحفت برداء التنافس الشريف، وانتشرت هذه العاهرة فى كل مستعمرات الإمبراطورية البريطانية وعلى رأسهم كانت مصر، توغلت العاهرة بشكل تدريجى إلى أعماق المجتمع المصرى حتى شملت كل الطبقات وكل الأعمار وباتت متربعة على قمة النشاط الرياضى بوجه عام .

وهنا تنبه لها حكام مصر فأخذوا يغازلون الشعب من خلالها وقد تجلى هذا بوضوح فى العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك، فتحول اللاعبون إلى أنصاف إله وتحولت الملاعب إلى وعاء كبير يستنزف طاقة الإنسان المصرى ويسيطر على مشاعره وأفكاره، وهذا ما وجدناه فى أحداث أم درمان، فقد كشف هذا الحدث الغطاء عن جسد العاهرة المصرية الكبرى ففضح أمرها وباتت عارية أمام أعيننا جميعا، وظهر ما كانت تخفيه وراء عفتها الكاذبة من تدليس وغش وخداع ونفاق ورياء وسفسطائية وسرقة ورشوة واختلاس للعقول والقلوب والأموال، وقد حان الوقت كى تحاسب العاهرة على ما ارتكبته من جرائم فى حق أجيال وأجيال، فمصر اليوم ليست كمصر الأمس، ولا تزال العاهرة مستديرة .

الجريدة الرسمية