بورتريه للديكتاتور
نَشَرت بعض الصحف القاهرية مؤخراً قصائد من نوع ما يسمى الكاريكاتور الشعري لمحمود درويش كان قد كتبها ونشرها في مجلة "اليوم السابع" الباريسية قبل توقفها عن الصدور، تلك القصائد هي بورتريهات لشخصيات مصابة بالعُصاب والانفصام، ومنها بورتريه للديكتاتور من خلال خطبه التي تشبه ما كان يقوم به دون كيشوت عندما أعلن الحرب على طواحين الهواء بسيفه الخشبي.
بالتأكيد ثمة دافع ما لإعادة نشر تلك القصائد بعد عقود من نشرها، وهذا بحد ذاته أمْرٌ له دلالتان، الأولى أن الأدب الخالد يصلح لكل زمان، لأنه يلتقط بذكاء ما هو عابر للعصور ويمسك بالقاسم المشترك بين الحالات الإنسانية على اختلاف صيغها وتجلياتها.
بورتريه الديكتاتور سبق أن رسمه فنانون في الشرق والغرب، ومن تلك الرسوم ما قدمه فنان روسي عن ستالين، عندما جعل من الغليون الذي كان يدخنه مساحة هائلة أشبه بساحة أو ميدان ووضع بدلاً من التبغ المحترق والرماد بشرًا. وهناك رسم آخر لحذاء الديكتاتور بحيث بلغت مساحته ضعف المساحة التي يقف عليها، لأنها انحنت وتكسرت من وطأته.
ولا ينافس هؤلاء في رسم بورتريه للديكتاتور إلا ما كتبه الكولومبي غارسيا ماركيز في روايته "خريف الباتريارك"، وفي الحالات جميعها ثمة تَسْفيه غير مباشر للطاغية، الذي يفترسه وهمان، وهم الخلود والأبدية ووهم المعصومية والحصانة ضد الخطأ.
لكنه حين ينسى أنه من البشر الفانين يقترف جرائم يظن أنها ستبقى كاملة، وبلا شهود، لكن ما إن يتوارى حتى تُنبش القبور الجماعية التي تَعج بالجماجم، ويعاد تكريمها بالدفن مثلما تعاد محاكمته ولو غيابياً على المستويين القانوني والأخلاقي.
ولأن الديكتاتور نرجسي وعاشق لذاته بالضرورة، فإن الآخرين جميعاً بالنسبة إليه هم مجرد أدوات . كأن يكونوا قفازات أو ملاقط يستخدمها كي لا تتسخ يداه.
وما كتب عن سايكولوجيا هذا الكائن الذي تتحالف عوامل عدة على إفرازه يستحق التأمل والمراجعة وذلك كي تكون هناك ثقافة وقائية ضد الإصابة السياسية بأمثاله، لأنه لا يولد من فراغ أو بالصدفة، ولا بد من مناخات تمهد له، وبالتالي لا بد من وجود حاشية تُزين له أخطاءه، وتحترف تبريرها بحيث يُصدق ما يسمع، هذا على الرغم من أن الذين يتحلقون حوله ويدلكون نرجسيته سرعان ما ينصرفون عنه إذا أزف خريفه، لأن ما يتبقى من الطاووس بعد نتف ريشه الملون هو القليل من اللحم الأعزل العاجز عن الدفاع ضد أضعف الكائنات.
بالطبع شهد محمود درويش في تلك النصوص الفريدة على عصره الذي كان فيه العديد من الطغاة خصوصاً في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، لكنه رأى من خلال تلك النماذج الحية سلالة ممتدة من أقدم العصور إلى أيامنا وما من ضمانة لأن لا تتمدد هذه السلالة إلى المستقبل.
فالديكتاتور أو الفرعون لا يتمادى إلا عندما يجد من يتيح له ذلك.
ولم تفلح حتى الديمقراطيات في معاقلها الأوروبية في الحيلولة دون إفراز طغاة، فالابن البكر للثورة الفرنسية التي بشرت بثالوث الحرية والعدل والمساواة كان إمبراطوراً وديكتاتوراً غازياً. وثمة أحزاب كانت حُبلى بأمثال هؤلاء، وهي لا تعي ذلك.
رسم بورتريه للديكتاتور قد يكون سَهلاً من الناحية السياسية، لكنه بالغ الصعوبة والتعقيد من الناحية السايكولوجية، فمكوناته ذات جذر تربوي، ولا بد أن تكون له طفولة من طراز “طفولة لوسيان” كما رسمها جان بول سارتر، وأخطر ما يهدد العالم بأمثال هؤلاء هو الثقافة التي تُبشر بعبادة الفرد، وترى فيه اختزالاً لأمم وشعوب.