رئيس التحرير
عصام كامل

جريمة العصر


منذ أن وجدت مصر ونحن نري الجرائم البشعة ترتكب في حقها من أبنائها تارة ومن أعدائها تارة أخري، جرائم عديدة متنوعة فيها من الإبداع والإمعان الكثير، ولكننا اليوم أمام جريمة مختلفة أقل ما يطلق عليها أنها جريمة العصر، لأنها لم ترتكب في حق أرض أو ملك أو ثروة أو بطل أو زعيم، بل ارتكبت في حق شعب وهو ليس كأي شعب إنه أعرق شعوب الأرض، وهذه الجريمة لم ترتكب فجأة ولكنها ارتكبت في حيز زمني كبير يتجاوز الخمسين عاما.


نعم، سنوات طويلة أخذ الإنسان المصري فيها يسير بأقدام ثقيلة تحت عنف الحياة ووحشية الحاجة، والفاعل ليس شخصا بعينه بل هم مجموعة كبيرة من الجناة ارتكبوا جريمتهم دون أن يشعروا أنهم يسددون طعنات قاتلة لأجيال متعاقبة بريئة، والجريمة هي: تجريف البعد الحضاري وتسطيح الهاوية التاريخية وتجفيف جميع ينابيع المعني والقيمة المكتسبة للمواطن البسيط، فأصبح المصري بلا معني يفهمه ويتمسك به وبلا هدف يرنو إليه ويرسخ له مجهوده وقدراته ويزرعه في ذريته، ببساطة أصبح الإنسان المصري يناضل من أجل البقاء فقط، فتحولنا جميعا إلي حيوانات آدمية تستلهم قناعاتها من بعضها البعض وتعيش في غابة حقيقة اسمها "مصر"!.

وإذا تعمقنا في تفاصيل هذه الجريمة الشنعاء، لوجدنا أن الموظف المحترم رب الأسرة حافظة القيم المصرية الأصيلة قد اختفي بل ُفقد في ظروف غامضة ُوفقدت معه القيم والأخلاق والشرف وعلي رأسهم.. الرحمة !! انحل المجتمع المصري أخلاقيا بشكل كامل فقام التلميذ وضرب أستاذه في الفصل وأخذ يضحك كلما تذكر هذا علي مدار حياته، وكذلك فعلها الابن مع الأب بل وصل الأمر إلي القتل...

والتمثيل بالجثث بين الزوج والزوجة، الشتائم والسباب في كل مكان تخترق أسماعك وتنتهك إنسانيتك أنت وأولادك وزوجتك، تحولت مدينة الأموات في القاهرة لأكبر تجمع سكني في العاصمة يعيش فيه ما يقترب من ٥ ملايين نسمة، وباتت العشوائيات في كل مكان وفي كل إنسان، فبات المجرم صاحب شرف والقاتل صاحب فضيلة واخُتزلت كل الثوابت وتلونت بما فيها التاريخية أيضاً، فأصبح مبارك هو الجيش المصري وهو من عبر القناة وحده، وهو البطل الأوحد والأخير في كل نصر أكتوبر المجيد .

وسقطت كل الرموز الفنية والفكرية في مستنقع التزلف والنفاق واللا كرامة، وهنا مات الفقير جوعا وتشرد المسكين تحت الكباري وفي زواية الشوارع يتسول الحياة من أناس هم أيضاً يتسولونها، فتشابه مصير إنسان مصر بمصير قطط وكلاب مصر، فهؤلاء كانوا يوما إلهة تعبد وتحترم وتقدس وانتهي بهم الحال إلي صناديق القمامة والخرائب المهجورة، فنحن إذًا أمام انفجار حقيقي للمجتمع المصري زلزل أركانه وأطاح بحجر الزاوية فيه والفاعل كما أسلفنا ليس شخصا بعينه بل هم جماعة من معدومي الضمير حلفاء إبليس الذين سقطوا في أطماعهم وكانت مصر الضحية .

وعليه، كان لابد أن تقوم ثورة شعبية تصرج وتذمجر لتخرج من هذا الكابوس اللعين، ولهذا كانت بلا قائد وبلا رأس لأنها ثورة وجدان قبل أن تكون ثورة إنسان، واليوم نحن نقف في بداية الطريق ومعنا بطل حقيقي احتضن صراخ المصريين، وعليه أن يدخل بنا إلي العمق لنبحر مخترقين الأفق وفاتحين مستقبلا جديدا لأجيال جديدة ومصر من جديد .

الجريدة الرسمية