رئيس التحرير
عصام كامل

محاكمة عبدالناصر وتخليد الببلاوى


لا يسعك وأنت أحد أبناء الطبقة العاملة أو الفلاحين أو صغار الموظفين والمهنيين إلا أن تقرأ الفاتحة على روح جمال عبدالناصر فى ذكرى وفاته، وربما يقودك فكرك المرتكن إلى تعليمك المجانى نحو فهم حقيقة أن التاريخ بات علماً لقراءة واستطلاع المستقبل، وأن مشروعات شعوبه وقياداته تظل متنافسة حتى إسقاط بعضها البعض.


أسوق إليك كلماتى متذكراً معها كيف كانت فرص الحياة تتآكل وتتناقص أمام أسر وعائلات كالتى ولدت فيها، أب عامل فى شركة قطاع أعمال جرت خصخصتها خلال سنة أحالته للتقاعد لم يجن منها سوى معاش لا يكفى خبزاً حتى انتهى عمره بعد 10 سنوات من الإحالة، ظل خلالها يعمل حتى ساعة وفاته لأجل حصوله على قوته.

فى المقابل كان أجره من عمله الحر أو الحكومى حتى تطبيق الخصخصة مطلع التسعينيات من القرن الماضى، يكفيه ويفيض ليعلم 5 من الأبناء عبر وظيفة لجأ إليها بعد سنوات من المفاضلة الحرة، سبقتها 10 أعوام من الخدمة "الإلزامية" مجنداً فى جيش مصر يتنقل بين صفوفه من اليمن السعيد إلى سوريا والجزائر حتى استنزاف عدوه المحتل لأرضه.

لكن مشهد بكاء هذا الجندى بحرقة على عبدالناصر كان بمثابة المراجعة لفهم ما بفكر هذه الشخصية، فخلال سنوات التجربة الأولى لخطة خمسية أنجزت ما يؤكد للعالم أن مصر باتت على الطريق الصحيح، نحو اقتصاد وطنى قوى، تشغيل عمالة وتراجع الأزمات الاجتماعية وزيادة معدلات النمو وتآكل الفروقات بين الطبقات ولو نسبياً وظهور صناعات تفرض سوقاً تنافسية، حتى إذا ما جاءت "الخطيئة" فى 1967 كانت القراءات متعددة الجوانب لها ومتباينة فى مداخلها ونتائجها السياسية على الأرض، إلا فيما يتعلق بالاقتصادى منها، فقد كانت تجربة الشعب ملكاً له وحده فحملها وتحمل عواقب ومحاولات العدو إجهاضها، فدفع بفرص القيادة السياسية فى الخلاص من المحتل منذ الأيام التالية على النكسة وحتى نصر أكتوبر.

فروض التجربة المصرية فى النصف الثانى من القرن الماضى حملت مؤشرات نجاح منذ صاغ ضباط يوليو بيان الثورة بأهدافها الستة ولو اختلفنا على ألفاظ ومقاصد بعضها أو غاب أحدها لأسباب زمانها كمصطلح "الإقطاع" وهدف "الديمقراطية" وسحقه فى صراع بين رؤى أطراف القيادة انتهى بإزاحة محمد نجيب وتنحية رؤية خالد محيى الدين وإسقاط سيرة يوسف الصديق منقذ الثورة.

وبعد يناير 2011 حصلت حكومات "شرف، الجنزورى، قنديل" على الفرصة فى ظروف متشابهة، عالم غربى يستعيد مشروعه الشرق أوسطى الذى أطلقه ونستون تشرشل فى 1945 للمرة الأولى وتولت أمريكا تنفيذه وأوقفه ظهور عبدالناصر وقوة جيشه وتوازنات عدم الانحياز، ليتجدد بنفس آلياته الدولية وأدواته الخارجية المعتمدة فكرة تصعيد الفاشية الدينية فى المنطقة مجدداً معتمداً على عورات مجتمعاتها، الجهل والفقر والأمية والبطالة، لمواجهة فرص وحدة شعوبها.

لكن الأول "شرف" عمل على استحياء بما يحمله من تناقضات شخصية وغياب رؤية، واحتفظ الجنزورى بهدف محاولة تحسينه صورة أقبح برنامج اقتصادى سبق له فرضه على شعب مصر، وحضر قنديل ليضع أحلامنا تحت أقدام مرشده وبقالين جماعته.

والآن.. وبعد تصحيح مسار الثورة بإبعاد الفاشية الدينية وحماية المؤسسة العسكرية وإعلانها انحيازها للشعب ومطالبه وحقوقه، لا تجد من سياسات حكومة الببلاوى ما يؤكد اتجاهها نحو مشروع وطنى "واضح"، تتأكد ملامحه فى دستور غابت عن محاور مناقشاته وصياغات مواده رؤية واسعة لأهداف ومصالح وحقوق وأحلام القطاعات الأعرض من العمال والفلاحين والمهنيين والمهمشين وغير المنتمين سياسياً وحزبياً من الأغلبية الحقيقية، ولا تقرأ مع خطوات حكومة توافقية سوى حقيقة أنها تسير فى اتجاه واحد نحو الدوران فى فلك النظام العالمى بسياساته الاقتصادية التى تعيد الثورات إلى نقطة الصفر مجدداً.

اقرأوا الفاتحة لعبد الناصر فى ذكرى وفاته كما أوصانى أبى وكما فعلها من ذاقوا مرارة سجونه يوماً ما، ربما ينتبه ويتنبه الببلاوى إلى أن تنظيراته الأحادية لا ترسم مستقبلاً ولا تثمر سياسة لاقتصاد حقيقى يتناسب وطبيعة شعب وثورة ومرحلة وأزمة، وربما تخلد سيرته ومن حوله ضمن من أضاعوا فرصة تاريخية لمصر فى النهوض والصعود مجدداً.. بأيادى شعبها.
الجريدة الرسمية