رئيس التحرير
عصام كامل

الملوثة أياديهم بالعمل العام


يومًا ما، كان العمل العام "الاجتماعى- المجتمعى- الخدمى- الحقوقى والسياسي" شرفا يسعى إليه المحبون لوطنهم وأهلهم، وينحنى أمام جهدهم المتمتعون بثماره والمراقبون لجدواه ونتائجه على المستويين العام والخاص.


شخصيات كبيرة خاضت العمل العام منذ بدء التاريخ، مرورًا بقبط مصر ودولة الخلافة ثم خديواتها وأحزابها الناشئة وجامعاتها التي مثلت أراضيها وقفًا حتى زمن الفتوات ودولة ما قبل القانون، وصولًا إلى عصر الجمهورية وظهور تشريعات تراقب وتحدد ماهية وآليات العمل العام والأهلي والسياسي في مصر، والرد عليه حكوميًا بإجراءات قانونية وسياسيًا وإعلاميًا بالتعريض بممارسيه.

وانتقلت خطوات الشخصيات الكبرى المثالية نحو "الوقف" لبناء مجتمع حقيقى يعتمد فكرة التأهيل لا الإذلال والإعانة والإعالة للمحتاجين، إلى صكوك غفران لكائنات طفيلية صعدت بعلاقاتها المشبوهة مع الأنظمة، بدءًا من رجال أعمال يبنون مؤسسات رعاية وخدمية لمواطنى دوائرهم الانتخابية بغرض تحصيل أصواتهم والاستحواذ على إرادتهم، ووصولًا إلى جمعيات تخلط العمل الاجتماعى والنشاط المجتمعى بالدعوي، عبر سيطرتها على دور العبادة وممارستها عملية جمع المال بشكل عشوائى وغير مقنن من خلال صناديق يطوفون بها على المصلين.

ثم كانت توسعة فكرة العمل العام ونطاقها لتضم المتطوعين بجهدهم وعلمهم ومهاراتهم في تخصصات ومهن مختلفة، وهذه الفئة زاد حضورها مع تزايد أزمات المجتمع واتساع هامش الحديث عن حريات وحقوق سياسية أُجهضت محاولات المحرومين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية لنيلها، فحضرت مؤسسات وجمعيات وروابط وائتلافات تسعى إلى تقديم الدعم المعرفى والمهارى والقانونى والطبى لبناء مجتمع تتسع داخله دائرة النشطاء داخل مجتمعاتهم المحلية، لمواجهة انتهاكات حكومية متزايدة لحقوق الإنسان جراء تفشى الظلم والرشوة والفساد وتنحية القانون جانبًا.

ولما كانت الأحزاب خلال عقود ماضية حكرًا على رؤى مؤسسيها، وربما ظلت كذلك لسنوات شهدت ظهور أحزاب لا تسمع عنها أكثر ما تعلم أحيانًا عن صحفها، فقد كانت المؤسسات الأهلية المتنفس الطبيعى "المختنق" لهؤلاء الهاربين من سوءات التنظيمات الحزبية والسياسية، راجع توجهات وأفكار كثيرين من مؤسسى الجمعيات الخيرية والمنظمات المجتمعية والحقوقية على السواء.

وظلت نظرية "البيضة والفرخة"، تحكم العلاقة بين المتسربين من العمل الحزبى إلى المجتمعى والحقوقى، وبين هؤلاء وأولئك من جانب وبين غير المسيسين أو الواعين بطبيعة دورهم، فكانت الانتماءات الحزبية يرد عليها بإساءة تفسير النظرية وتشويه عقيدة معتنقيها، ثم جاءت تشويهات الممارسين للعمل المجتمعى والحقوقى وأصحاب المبادرات فيه، بسبب مصادر تمويل ودعم أنشطة كيانات القائمين عليها، سواء كانت محلية أو خارجية.

وبغض النظر عن مصدر تمويل أي عمل وضرورة التركيز في جدواه وانعكاساته على المجتمع ونزاهة وشفافية طرق التصرف به، يكمن الشيطان في التفاصيل بين قانون مشوه يرتضى للجمعيات الدعم الخارجى لأنشطتها، مقابل علاقات غير مشروعة أحيانًا مع جهة الإدارة والمراقبة، وإعلام ينقل عن غير فهم تشويهات متعمدة على المشاع تستهدف فيما تستهدف شخصيات أعطت لمجتمعها أكثر مما أخذت، بغض النظر عن أفكارها وتوجهاتها السياسية.

فوضى التعامل مع المتهمين بتلوث أياديهم بممارسة العمل العام، مصدرها سوء فهم حقيقة أن التعاون الدولى أصبحت المنح والمعونات إحدى آلياته، وأن الدول التي تمنح منظمة هنا أو هناك أي دعم، لا تستطيع العمل داخل الدولة الواقعة داخلها إلا إذا تعاملت مع حكومتها أولًا لذات الغرض وهو إعطاؤها منح في صور شتى، وتجربة أي نموذج غير سوى للعمل العام لا يمكن أن تغتفر إلا بمحاسبة قانونية وقضائية، وليس بمعايرة وفضح شعبى أو حكومى لأصحابها والرد عليهم بطريقة "لا تعايرنى ولا أعايرك.. الفساد طايلنى وطايلك"، التي جعلت الكل متهمًا والجميع ملوثًا ولا حرا أو نزيها أو صاحب مبادرة مجتمعية أو سياسية لوجه الله والوطن والمجتمع بيننا.
الجريدة الرسمية