الخوف من النور
أحيانا تصلح الأمثال الشعبية فى مرحلة ما مدخلا نموذجيا للتعرف إلى المزاج السائد اجتماعيا وسياسيا. ولمعرفة الشجون التى تشغل الناس أكثر من سواها، لهذا تُفرز أزمنة الانحطاط أمثالا سلبية، منزوعة الإرادة، ويغلب عليها التواكل والانسحاب من حلبة الصراع، ومن قالوا: “الباب الذى تأتى منه الريح سده كى تستريح” لم يخطر ببالهم أن الأبواب الموصدة لا تحمى من يختبئون وراءها من الأعاصير.
ولو قيل هذا المثل فى زمن آخر مغاير لجاء فى سياق مضاد، حيث التحريض على الانفتاح والحوار وفتح الأبواب والنوافذ معا للنور هى البدائل للانكفاء والذعر والتشرنق.
وللأسف فإن معظم الأمثال الشعبية المتداولة فى عالمنا العربى هى من الطراز السلبى ومن إفراز ثقافة الانسحاب والريبة رغم أن موروثنا العربى يعج بأمثال أخرى فيها ترسيخ لمفهوم المجابهة والاستجابة الفذة للتحديات، لكن القرون الأربعة الماضية هى التى طغت بأمثالها وأمثولاتها معا، حيث التبعية والوصاية وعدم بلوغ سن الرشد التاريخية، لهذا يتوجب على علماء النفس الاجتماعيين بالتحديد أن يعودوا لفحص عينات من هذه الثقافة وتحصين الوعى العربى فى هذه الآونة الحرجة من نتاجها السلبى.
وعندما وعظ الآباء أبناءهم أن يمدوا سيقانهم على قدر الفراش الذى ينامون عليه كانوا أشبه بتلك الأسطورة اليونانية عن قاطع طريق اسمه بروكوست، يقال إنه كان يمط سيقان ضحاياه أو يبترها كى تلائم مساحة السرير الذى كان يعذبهم عليه، وحين يكون الإنسان مطالبا بأن يختار بين أن يبتر ساقيه كى لا تفيض عن فراشه أو يطيل فِراشه فإن الخيار الثانى رغم بساطته الظاهرية يختصر دراما التغيير والتحول الهائلة، لكن ثقافة المهزومين ليست بالتأكيد من طراز ثقافة المنتصرين أو ما يسميهم ابن خلدون الغالبين، فالغالب لا يُقلد أحدا لكن المغلوب يقلده، وهو أيضا يجترح أفقه وطريقه سواء فى الصحراء أو الغابة أو القطب المتجمد، بعكس تابعه الذى يقتفيه وهذا ما اختصره أسلافنا بعبارة ذات دلالات عميقة هى وقع الحوافر على الحوافر.
وثمة شعوب دفعت ثمن الانسحاب وإغلاق الأبواب خوفا من الرياح فتوقفت عن النمو، لأنها أصيبت بضمور فى إرادتها ومبادراتها وبالتالى تحولت إلى سلسلة من ردود الأفعال فقط.
والمسألة الآن ليست فى العثور على حلول وسطية أو متوسط حسابى للانفتاح المطلق والانغلاق التام، لأن الأبواب المواربة أو نصف المغلقة لابد أن تنتهى مع مرور الوقت إلى الانغلاق أو الانفتاح، والعودة بنا الآن إلى فلسفة الانكفاء والتشرنق هى انتحار عقلى ومعنوى حتى لو سلِمت الأجساد.
نقلا عن الخليج الإماراتية