رئيس التحرير
عصام كامل

خماسين سياسية


حين سئل محمد حسنين هيكل فى برنامج تليفزيونى عما يجرى فى العالم العربى، وهل هو ربيع أو خريف؟ أجاب أن الكلمة الأدق لوصف ما يجرى هو رياح الخماسين. وبرغم أن المصطلح جغرافى فإن التاريخ أيضاً له مثل هذه الفصول والتضاريس لكنْ على طريقته، ورياح الخماسين غالباً ما تكون مثقلة بالغبار وتحجب الرؤية وفيها من الغموض وعدم الاستقرار ما يلائم ما نحن عليه الآن عربياً. وقد يكون هيكل محقاً فى هذا التوصيف الذى يبدو متشائماً إلى حد ما، لأن التفكير الرغائبى وإصرار البعض على أن يروا ما يريدون رؤيته فقط، من شأنه أن يضاعف الصدمة، والمطلوب هو ترشيدها لأن معرفة السبب تبطل العجب فى أى شأن من شئون عالمنا .

فبعد عامين من حراكات شعبية استطاعت تغيير نظم سياسية لا يلوح فى الأفق ما ينبئ أن الاستقرار وشيك، لأن الخلخلة لم تتوقف عند حدود نظام أو سلطة سياسية، بل أصبحت الدولة ذاتها فى مهب عواصف عاتية وكأن عليها أن تبدأ من أول السطر.
وقد سبق لكاتب عربى هو الراحل غالب هلسا أن أصدر رواية تدور أحداثها فى مصر بعنوان الخماسين، وكان استخدام هذا المصطلح المناخى له أيضاً دلالات سياسية واجتماعية.
لكن لهذه الفترة المناخية المتقلّبة عمراً محدداً هو خمسون يوماً فقط، وعندما تمتد لتشمل عاماً أو أعواماً فإن المسألة كلها تصبح بحاجة إلى إعادة قراءة، فالحراك ذو الأهداف الواضحة والمحددة يوحّد ولا يفرّق ويضيف ولا يحذف أو يُقصى لكن ما يحدث هو ديناميات مضادة للوحدة والإضافة، وكأن الذى كان مغلقاً ورفع عنه الغطاء هو صندوق باندورا اليونانى المملوء بالشرور، رغم أن رمزية هذا الصندوق فى الأسطورة هى عن المرأة وليست عن الثورة.
قد يقال إن الفترات الانتقالية تطول ويتخللها تجريب لمفاتيح عدة فى القفل الصعب الذى تراكم عليه الصدأ، لكن المسألة ليست فى طول أو قصر المدة التى يستغرقها مثل هذا الانتقال والتجريب بل فى رصد المنجزات والخطوات، فالمراوحة لا تطيل الفترات الانتقالية فقط بل تضيف إليها بعداً انتقامياً يورّط الحراك السياسى فى معركة طويلة من الإقصاء المتبادل، وقد ينتهى كما فى بعض التجارب إلى مُحاصصة سواء أخذت شكلاً طائفياً أو حزبياً .
وهذه ليست أول رياح خماسينية تحجب الآفاق، فقد مرّ العالم العربى خلال عقدى الخمسينات والستينات من القرن الماضى بحالات من الارتباك والاضطراب بعضها استطال حتى عطل النمو وأعاق الحركة، وأخطر ما يمكن أن يحدث هو انقطاع الغايات عن الوسائل والنتائج عن المقدمات، بحيث تتحول شعارات من طراز العدالة والحرية والرغيف إلى ثالوث دموى من الظلم والاحتكار والبطالة.. وهناك مثل إنجليزى قديم يقول إن سنونوة واحدة تكفى للتبشير بالربيع، لكننا لا نعرف حتى الآن ذلك الطائر الذى ينذر بالخماسين .
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية