رئيس التحرير
عصام كامل

أسرى بين النسيان والتناسي

فيتو

بضعة آلاف من الأسرى الفلسطينيين يراوحون بين التناسي والنسيان، ولا يرددون مع أبي نواس الحمداني مناجاته “لحمامة” تنوح بالقرب من زنازينهم، لأن ما يسمعونه ليل ونهار هو نعيق الغربان، لكنه نعيق باللغة العبْرِية، وكل واحد من هؤلاء أب أو ابن أو زوج أو حفيد، وليسوا مقطوعين من شجرة لذلك، فعددهم الحقيقي هو سبعة أضعاف العدد الرسمي المعلن، لأن ذويهم أسرى داخل جلودهم، وقد تحولت قلوبهم إلى زنازين أيضاً لفرط ما نزفت سراً وعلانية .

التناسي السياسي يطيل من أمَد أسْرِهم بانتظار مقايضة ما، والنسيان الإنساني يحوّل وظيفة الأبواب إلى دخول فقط، لأن الداخل إلى تلك السجون مفقود إلا إذا شاء الله وشاءت إرادة البقاء عكس ذلك . ولو تخيلنا حياتهم خصوصاً من قضوا عدة عقود منذ صباهم في السجون، لوجدنا ألف رواية ورواية ملئت بالتفاصيل عنهم، لكن الروائي العربي مشغول عنهم بسواهم . ولم تعد الحرية هاجساً لمن قرروا أن الحياة إقعاءً وليس جلوساً فقط أفضل من الموت وقوفاً كأشجار السنديان .
لقد حدد لهم من ينعمون بحرية التجوال رغم أنهم أسرى في عقر وطنهم يوماً من كل عام، واختصرت هذه الدراما إلى طقس يشبه طقس العزاء، فما أن تغرب شمس يومهم حتى تشرق الشمس خارج سجونهم على من نجوا إما بالفرار أو اللامبالاة، وهؤلاء المنسيّون، منهم من يقضي كمداً ومنهم من لا يجد العلاج فيموت بدائه المزمن، ومنهم من ينتظر .
لكن الفِدْيَة باهظة، والمقايضات مؤجلة لأنها رهينة لعبة سياسية شطرنجية، وما من أحد اليوم يقول ما قاله، ذلك المثقف الفرنسي قبل نصف قرن عندما اعتذر للأسرى والسجناء حتى أقصى زنزانة في هذا الكوكب عن كونه حراً .
ثم أضاف أن حريته كاذبة لأنها مطعونة بحقيقة أمضى من حد السيف، تلك هي حقيقة من سُلِبَتْ حرياتهم لأنهم دافعوا عن حريات الآخرين، كلاهما، الشهيد والأسير، يفتدي الأحياء والمَحْجور على حريتهم بما فاض لديهم من الإيثار والفروسية، لأنهم لو شاؤوا لعاشوا كالآخرين أو أفضل منهم .
قد يكون أضعف الإيمان هو تذكر هؤلاء الأسرى مع مطلع كل نهار والاعتذار إليهم عما لحق بهم وبذويهم من التَنْكيل والحرمان . لكننا نملك ما يفوق هذا الحدّ الأدنى، وهو المطالبة بتحريرهم على مدار السّاعة . لأنهم أسرى على مدار السّاعة وليس ليوم في الأسبوع أو لأسبوع كل شهر . فالاحتلال من الأفعال القليلة التي لا تقبل الألفة أو العادة والتأقلم . لأنه يَوْميّ بل لَحْظيّ، وهو سَطْو على المستقبل استكمالاً للسطو على الذاكرة والماضي .
سيبدو الأمر مثيراً للسخرية حتى البكاء، إذا قررنا أن نتذكر أسرانا يوماً واحداً في العام، فهم لم يسقطوا كطائر السمّان في شباك الخريف، بل أسقطوا في كمائن مُحْتَلّ “تَربَّصَ” بهم وهم يقاومون .
هؤلاء الرجال والنساء والأطفال هم الكابوس الليلي الذي يفسد علينا الاستغراق في النوم، فكل لحظة دفء تذكرنا بالصقيع الذي يجلدهم، وكل عناق مع أب أو أخ أو ابن يذكرنا على الفور بتباعد أيديهم عن أيدي آبائهم وأبنائهم .
ما من حمامة تنوح قرب زنازينهم، بل هي الغربان التي لا تكف عن النّعيق بلغة لا تعرف غير القهر والزّجْر .
فنحن جميعاً أسرى في سجونهم لكننا لا نعلم .
نقلا عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية