ذكري والدى ليست بذكرى
لا أستطيع أن أبدأ حديثى بقول اليوم الذكرى السنوية العاشرة لوفاة والدى الطيب كما يقول إخواتى، لأنها ليست بذكرى لأن ذكراه لم تنته. أيقنت في 22 سبتمبر 2014 منذ وفاة والدى أن الفواجع تبقى كما هى حتى مع مرور الزمن لا تهدأ.. والحزن على أحبابنا بعد رحيلهم لن يموت ولن يتركنا مع مرور الأيام.
يصفنى معظم من تربطنى بهم علاقة عمل أو جيرة أو حتى صداقة أننى ودود كريم صاحب مواقف طيبة وقت الأزمات والأفراح، ويعتقد كل منهم أنه الأقرب لى دون الآخرين.. وأحب أن أعترف أمام الجميع أنه لا يوجد شخص له صفة خاصة بعد والدى.
فذلك الوصف دفن مع القريب الوحيد إلى قلبى وعقلى، دفن مع صديقى وأخى ووالدى عندما أرحته في قبره بيدى، فدفنت معه أسرارى ومشاعري وحبى.. وكل ما أفعله بعد ذلك من مواقف ما هى إلا سوى وصية لحبيبي أنفذها مع القريب والغريب..
أنفذ مبدأ كان ملتزما به في حياته معلقا في برواز في مكتبه عليه حديث شريف يقول: "إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير، وحبب الخير إليهم أولئك الناجون من عذاب الله يوم القيامة".
كنت أذاكر وأنجح في دراستى لكى يفرح والدى عند إعلان النتيجة.. وبعد الجامعة وحصولى على بكالوريوس إعلام بترتيب الثانى على دفعتى كان لى الحق في التعيين كمعيد بالجامعة، وهذا ما كان يتمناه والدى، ولكن كذبت عليه وكانت هذه هي الكذبة الأولى والأخيرة طوال حياتى..
أخبرته أن الجامعة رفضت تعييني.. وكان ذلك بسبب عدم حبى لهذا المجال لاننى كنت أحب أن أعيش حرا وأعشق أى عمل غير مرتبط بوقت محدد خاصة لو كان هذا العمل يبعدنى عن الاستيقاظ مبكرا، وبعدها ندمت وتيقنت أن هذه الكذبة أخرجتني من مستقبل راق كان يحلم به والدى لي، وأيقنت أننى عندما خرجت من جلباب أبى خسرت كثيرا.
والدى رحمة الله عليه علمنى معنى طاعة الله وحب الأسرة والقوامة عليها.. والدى علمنى معنى إحترام الآخر وعدم الاستقواء على الآخرين وكان دائما يذكرنى قائلا "من على فالله أعلى" والدى أخبرنى أنه لا يوجد شخص فى هذه الدنيا (مقطوع) كما يصف البعض، وقال إن لله جنودا يسخرهم لخدمة الضعفاء.
علمنى والدى أنه لا داعى للكذب، ولا يوجد شخص على الكرة الأرضية يستحق الكذب من أجله أو الكذب خوفا منه، وأن الصدق أقصر الطرق وأكرمها وأضمنها للنجاة حتى لو كان على المدى البعيد.. والدى علمنى أن الرزق الحلال مهما كان الحصول عليه صعب أو ربحه قليل فان بركته تظل أفضل من عشرة أمثاله من منبت حرام.
والدى علمنى الصبر للحصول على الحقوق وأن أسلك جميع الطرق الودية والتى لا تقطع الرحم ولا تهدم صداقة ولا تفرق أحبه ولا تقطع رزق أحد، ولكن جميعها يهدف فى النهاية إلى حتمية الحصول على الحقوق.
علمنى والدى أنه عندما أحكم بين العباد أن أقول الحق وإن كان هذا الحق يدين أو يغضب قريب أو حبيب، لآن قول الحق يرضى رب العباد ولا يجب أن أنشغل بالعباد أنفسهم.
والدى رحمة الله عليه جعلنى مدللا حتى أن الجميع كان يصفنى بذلك، ولكن حقق المعادلة الأصعب وأتمنى أن أحققها مع أولادى، فهو دللنى وعلمنى كيف أكون رجلا.. لم يبخل علي في يوم بالمال ولكن علمنى معنى الحفاظ عليه وإنفاقه في مساره الحلال.
شاء القدر وأراد الله أن يسترد وديعته وأن أفقد والدى مبكرا وهو في سن صغير على عكس أعمار عائلتنا، كنت أظن أن والدى سيعيش لسن المائة عام كما عاش جدى 112 عاما، ولكن أراد الله أن يزوجني ويرى أحفاده وتصعد روحه لخالقها، تاركا كسرة قلب ووجع وإشتياق وحرمان لا يمكن أن يعالج سوى باللقاء في الجنة إن شاء الله.. اللهم إغفر وأرحم والدى الطيب.