قصة خروج الملك فاروق من مصر.. تنازل عن العرش في قصر رأس التين.. استقل يخت المحروسة إلى نابولي.. وألقى بيانا بعد وصوله الأراضي الإيطالية
اختلفت الآراء لأعضاء مجلس قيادة الثورة بعد نجاح الثورة حول مصير الملك فاروق وأسرته وفي وسيلة التعامل معه بعد خلعه، واقترح البعض محاكمته، واقترح البعض الآخر التخلص منه، لكن أكدت الأغلبية ضرورة ترك ملك مصر معززًا مكرمًا حتى تخرج الثورة بيضاء دون دماء، وفى تلك الأثناء انتقل فاروق إلى قصر رأس التين ومعه زوجته ناريمان وبناته، وكان القصر محصنًا ببعض رجاله حتى يكون بالقرب من اليخت المحروسة للهرب في أي وقت.
ففى صباح 26 يوليو 1952 وصل علي ماهر إلى قصر رأس التين يحمل إنذارا إلى الملك فاروق بالتنازل عن العرش كتبه البكباشى أنور السادات، ووقعه محمد نجيب وجاء نصه: نظرًا لما تعرضت له البلاد لسوء حكمك وانتهاكك للدستور، واحتقارك لإرادة الأمة الذي تزايد حتى أصبح المواطن غير آمن على حياته أو أملاكه أو كرامته، ونظرا لأنك تحت حمايتك سمح للخونة والمخادعين أن يجمعوا ثروات باهظة باستغلال المال العام، بينما يموت الشعب من الجوع والحرمان، وقد تجلت آية الفساد في حرب فلسطين وما تبعها من فضائح، لذلك فإن الجيش الذي يمثل قوة الشعب الآن يطلب من جلالتك التخلى عن العرش لصالح ابنكم ولي العهد الأمير أحمد فؤاد، وأن تغادر البلاد في نفس اليوم قبل السادسة صباحا.
فاروق يوقع بالتنازل عن العرش
وافق الملك فاروق على التنازل ورد بأمر ملكي يحمل وثيقة التنازل وقام بالتوقيع عليها قال فيها: (نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان.. حيث إننا نسعى دائمًا إلى سعادة ومصلحة شعبنا دائمًا، ونتمنى بصدق أن نجنبهم المصاعب التي تواجهها في تلك المرحلة الدقيقة، فنحن نخضع لإرادة الشعب ونزولًا على إرادة هذا الشعب قررنا النزول عن العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد، وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام على ماهر باشا رئيس الوزراء للعمل بمقتضاه)، وقَّع فاروق الوثيقة والدموع في عينيه.
ترك الملك فاروق الأراضى المصرية في مثل هذا اليوم ٢٦ يوليو ١٩٥٢ في تمام السادسة مساء بعد أن وقع وثيقة التنازل عن العرش لابنه الأمير أحمد فؤاد فلم يكن هناك غير على ماهر رئيس الوزراء الجديد والمستر كافري السفير البريطاني، وقائد اليخت الملكي وعدد من ضباط الحراسة الشخصية للملك وبعض من أفراد الخدمة الخاصة لجناحه،
يضف السفير كافري المشهد ويقول: انفجر الجميع بالبكاء عندما بدأ الملك فاروق يتحرك نحو يخت المحروسة وفى نفس الوقت كان الملك محافظًا على أعصابه أثناء أداء مراسم التحية التي أديت له، وقبل أن يخطو الملك إلى اليخت التفت إلى وإلى على ماهر وقال إن هؤلاء الذين أرغموه على الخروج هم مجرمون.
شهادة حسين الشافعي
وفى كتابات حسين الشافعى عضو مجلس قيادة الثورة الذى حضر إلى الإسكندرية مع اللواء محمد نجيب لحضور مشهد وداع الملك فاروق يقول: بعد أن تحرك القارب المقل لـ الملك فاروق إلى اليخت وصلنا أنا واللواء محمد نجيب ومعنا جمال سالم وبعض الضباط وأبدى اللواء نجيب ضيقه لتحرك اليخت قبل وصولهم وأخذ لنشا بحريا، ووصل سريعا إلى اليخت حيث الملك واقفًا وصعد نجيب المحروسة واتبعته أنا وجمال سالم وأدى نجيب التحية لفاروق وقال له: أنت تعلم يافندم أنك السبب فيما فعلناه، فرد فاروق أنتم سبقتمونى بما فعلتموه وكنت أريد فعله، على الله تخلوا بالكم من جيش أجدادي وبلادي.
وأضاف الشافعى:لاحظ الملك فاروق أن جمال سالم يحمل عصاه وهو يقف أمامه فقال له أرم عصاك فاعترض سالم لكن نجيب منعه من الرد على فاروق وأمره أن يترك عصاه، فألقى سالم عصاه وانتهى الوداع وسافر الملك في احترام ووقار إلى إيطاليا.
لماذا استسلم فاروق وقبل التنازل
ويعلق الدكتور محمد حسين هيكل فى كتابه “ مذكرات فى السياسة” ويقول: فى يوم 26 يوليو 1952 استسلم الملك السابق فاروق لطلب الثورة وتنازل عن العرش وغادر البلاد دون أن يبدى أي مقاومة أو معارضة، فقد كان يتوقع رد فعل فيه اساءة، وقيل إنه تبودلت بينه وبين الجيش الذي حاصر قصر رأس التين طلقات نارية لكن لم يذكر أحد ذلك.. ولكن قيل إنه نزل بنفسه إلى الحرس، بل قيل أيضا إنه هدد بأن يصدر أمره إلى الحرس أن يقاوم ولما خاف أذعن وقبل التنازل.
ويضيف حسين هيكل:وكان موقف الملك فاروق هذا منطقيا متسقا مع تصرفاته منذ بدأت حركة الجيش، فحين بدأت حركة الضباط الأحرار أبدى الملك عدم اكتراث وصل إلى حد الاستهتار، فلما عرضت عليه معالجة الأمر بتعيين محمد نجيب وزيرا للحربية.. رفض الملك، ولما استقال حسين سرى باشا وتألفت وزارة الهلالي كان الأمر بيد الملك والضباط الأحرار قد بلغ مبلغا يقتضي الحكمة، ولما بدأت حركة الجيش بالقاهرة واعتقل القائمون بها زملاءهم في الجيش ممن ليسوا في محل ثقة وضعوا يدهم على دار الإذاعة وأعلنوا أن الأمر أصبح بيدهم، لم يفكر الملك، ولم تفكر وزارة الهلالي في اتخاذ إجراءات حاسمة بل طلب مرتضى المراغى باشا وزير الحربية في حكومة الهلالى إلى اللواء محمد نجيب أن يحضر إليه فرفض نجيب الحضور وطلب إلى الوزير أن يحضر هو إليه في ثكناته، إلا أن المراغى قدر أنه لو ذهب لضاعت هيبة الوزارة وأنهم قد يعتقلوه.
وفى صباح 26 يوليو زحفت فرق الجيش من الأحرار إلى الإسكندرية وحاصرت قصر رأس التين وقام سلاح الطيران بمناورات مزعجة.. فكان طبيعيا أن يستسلم فاروق ويتنازل لولده محافظا على زوجته الشابة وابنه وبناته الثلاث.
المحروسة ملك الشعب
يقول الملك فاروق فى مذكراته: استغرقت رحلة المحروسة إلى نابولي ثلاثة أيام في عرض البحر، وقضينا الشطر الأول من الليلة الأولى في الإبحار بأقصى سرعة، وتولى علوبة باشا قيادة المحروسة بعد أن أمره اللواء نجيب بمرافقتى إلى أول ميناء في إيطاليا، والعودة مرة أخرى إلى، الإغسكندرية، فالمحروسة ليست ملكي، لكنها بنيت في عهد جدي إسماعيل وتملكتها الحكومة بعد الثورة، وصدرت الأوامر المشددة لعلوبة بك بأن زوجته وعائلته سيتم احتجازهم كرهائن إذا لم يعد بالسفينة بعد توصيلنا إلى نابولي.
وتابع الملك فاروق: وصلنا نابولي ـ مدينة الملوك المخلوعين منذ عهد جدى إسماعيل ـ فوجدنا الترحاب والمأوى والأصدقاء، ووضعت الحكومة تحت تصرفنا حرسا خاصا، ثم قمنا بتوديع أصدقائنا العائدين مرة أخرى على المحروسة، وفور خروجنا فوجئنا بحصارنا حصارا محكما من قبل 300 صحفي من مختلف دول العالم ينتظرون على رصيف الميناء، وتعرضنا للكاميرات التي تم تثبيتها على أسطح المنازل وأبراج الكنائس، فطلبت إحضار اللنش الصغير الذى أملكه في كابرى واستقر بجوار المحروسة وتمكنا من إنزال متعلقاتنا فيه على مرأى من فضول الصحافة التي تمركز معظمها حول الفندق الذى سأنزل فيه.
فاروق يلقى بيانا عند وصوله نابولى
وأضاف الملك فاروق: لكني وعدتهم أني في اليوم التالي سأقف أنا وعائلتي أمام كاميراتهم وسألقي لهم بيانا، وأدهشني رد فعلهم الإيجابى، فقد أغلقوا الكاميرات والتزموا بالوعد وتركوا الفندق ولم يضايقنى أحد منهم، وفي اليوم التالي أعددت بيانا موجزا ذكرت فيه أني ضيف على الحكومة الإيطالية، وتحت رعايتي ملك مصر الصغير، وكنت حريصا على كل كلمة حتى لا أسبب متاعب لمن حولي،..