إفريقيا تنشد سيادتها الصحية في القاهرة
للمرة الثالثة على التوالي، تلتزم مصر بتقليدها السنوي، وتعقد كما عودتنا، وفي نفس توقيت السنتين الفارطتين، نسخة هذه السنة لمؤتمر الصحة الأفريقي الثالث.
هو مؤتمر لا يحج إليه الأفارقة وحدهم، وإنما تقصده بجانبهم كبريات شركات الدواء العالمية، ويؤمه عدد من صناع القرار الصحي البارزين عبر العالم، للتذاكر في المشاكل الصحية للقارة، واستكشاف آفاق جديدة للتعاون بين الأفارقة شعارها ضمان السيادة الصحية لأفريقيا، وبناء شراكات جنوب جنوب تخص اقتصاد الصحة. شراكات يكون المكسب فيها للجميع.
إنه مؤتمر علمي، ولكنه فوق ذلك مؤتمر له رؤية شاملة وحامل لاستراتيجية بعيدة المدى افريقيا، إذ يشكل في الحقيقة علامة على الوعي الذي بدأ يترسخ داخل القارة السمراء بعد التجربة المريرة لجائحة كورونا بضرورة أن تعتمد افريقيا على نفسها في مواجهة الضوائق الصحية التي يمكن أن يتعرض لها العالم في المستقبل.
فهي لا تنسى إلى الآن أنها تركت لحالها إبان الجائحة، وأن العالم المتقدم الذي طالما احتاج لها، واستغل خيراتها، قد تركها للمجهول دون لقاحات تسعف بها شعوبها، مكشرا لها عن انانيته وتخلفه انسانيا، لتعتمد على فتوتها وتمرسها السابق على الأوبئة وعلى طقسها ومناخها للإفلات من الكارثة.
كما أنها تدرك جيدا أن زمن الأزمات لم ينته بعد، بل هو بالكاد قد بدأ، وأن هذه الأزمات ستتناسل بإستمرار، وستتداخل فيما بينها وتتنوع ما بين أمنية واقتصادية ومناخية وغذائية، وستؤدي بها كلما تنوعت وتمايزت لنتيجة واحدة يمكن أن تتكرر دونما توقف، وهي تدهور الأمن الصحي الافريقي وفقدان الكرامة بمناسبة أية أزمة من هذه الأزمات..
ولذلك يتموقع هذا المؤتمر بانتظامه وحرصه على تمثيلية واسعة وشاملة، في طليعة مبادرات أخرى تعرفها هذه القارة، هدفها توحيد الجهود في مواجهة التهديد الصحي الذي يتربص على الدوام بإفريقيا، ووضع خطط استباقية تمكنها عند الحاجة من حشد قواها وإمكانياتها لأجل ضمان كرامة وطمأنينة المواطن الإفريقي.
سوف يناقش هذا المؤتمر عدة قضايا شائكة تتخبط فيها القطاعات الصحية للبلدان الأفريقية تهم كل الاختصاصات تقريبا، وخصوصا ما يمثل أولوية لها، وسيسعى للخروج بتوصيات تكون ملزمة للقادة الأفارقة حتى لا نلدغ من الجحر مرتين، ونحاول كأفارقة أن نحقق رؤية أفريقيا مزدهرة للاتحاد الأفريقي في أفق 2063.
لكن الأهم في كل هذا، أن تتلمس أفريقيا بجهودها الذاتية من خلال جلساته الحوارية طريقها نحو العدالة الصحية التي فهمت أخيرا أنها تنتزع ولا تعطى.
العبرة من مثل هذه المؤتمرات الفارقة، أنها تحض على اكتساب العصامية، وأنها تدفع بالافارقة للبحث عن وصفات أفريقية خالصة لمشاكلهم الصحية، فما يبرمج بالغرب من مخططات في مجال الصحة ليس بالضرورة ناجحا لنا. فأحيانا كثيرة يخفي توحشا رأسماليا بل امربيالية تتلفع برداء إنساني وصحي.
يشجع هذا المؤتمر عبر محطاته المختلفة خططا لأفريقيا تبدعها عقول أفريقية، خططا توافق سياساتنا وإمكانياتنا وأنماط عيشنا.
أفريقيا هي مستقبل العالم، لا ريب في ذلك أبدا، وتجويد منظوماتها الصحية، بهذا المعطى ليس رهانا أفريقيا فقط بل ينبغي له أن يكون رهانا عالميا، لكن على أفريقيا أن تنهض بهذه المهمة هي نفسها، وبطاقاتها ومقدراتها.
في هذا المؤتمر نحس أن أفريقيا تمتلك كل شيء لكي تنهض صحيا، هي سوق ضخمة، وورش صحية كبيرة، وهي قبل كل هذا طاقات وكفاءات، وإذا اتحدت وفاوضت جماعيا كان لها الثقل العالمي الوازن، وحتى الأزمات الصحية التي تعيشها وما أكثرها، هي فرص سانحة بدورها للتقدم إذا تم الاستثمار فيها في الاتجاه الصحيح من خلال تشجيع البحث العلمي والابتكار في مجال الصحة ووضع سياسات صحية تتمحور حول المواطن الأفريقي..
وكذا تحديد الممارسات الجيدة في مجال الحكامة والاستدامة المالية للقطاعات الصحية. في افريقيا دول فقيرة كثيرة، لكن بها أيضا دول متوسطة وأخرى محورية، ويمكن دائما لهذه الأخيرة أن تكون قاطرة صحية في محيطها الإقليمي، فالتعاون جنوب جنوب أجدى دائما من التعاون جنوب شمال الذي ينحرف دوما نحو ترسيخ التبعية التي تستحيل عجزا فاقعا إبان الكوارث الصحية.
مؤتمر الصحة الأفريقي الثالث هو مصري التنظيم، ولكنه أشبه ما يكون بحركة عدم انحياز تتم هذه المرة على الصعيد الصحي، تريد بها الدول الأفريقية أن تثبث فيها رغبتها في الاستقلال صحيا عن هذه الدول المتقدمة من خلال توطين الصناعات الدوائية واللقاحات أفريقيا، وتبادل المعطيات والبيانات الضخمة، وتلاقح الخبرات وتأسيس شراكات قارية وإحداث نظام موحد للمنشآت الصحية...الخ.
مصر تريد لأفريقيا كما قال وزير صحتها خالد عبد الغفار أن تتهيأ للخدمات الصحية التي تحبل بها الثورة الصناعية والمستشفيات الافتراضية والطب التنبؤي كما يدل على ذلك مشروع الجينوم المصري.
إن أفريقيا لتعرف الآن ما تريد، وتعي ما ينبغي عليها فعله، يتبقى فقط أن تنجز ما تريده وتنفذ ما وعيته، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية تكون عابرة وشاملة للقارة بأكملها، أعتقد أن أفريقيا تتوثب للنجاح وأنها تعرفت أخيرا على الطريق الصحيح: الاعتماد على الذات.
fathi.khalid001@gmail.com