حكايات الشيخ سيد النقشبندي سلطان المداحين وكروان المنشدين.. تعاون مع الملحن بليغ حمدي بأمر من السادات.. وسافر إلى سوريا لإحياء الليالي الدينية بدعوة من الرئيس حافظ الأسد
الشيخ النقشبندي، ظاهرة، جمعت بين القوة والوقار والجمال، ابتهالاته جزء أصيل من روحانيات رمضان، هو سلطان المداحين وكروان المنشدين مبتهلا ومنشدا، منحه الله حنجرة ذهبية وتم تكريمه خارج مصر، صوته من أعذب الأصوات التى قدمت الدعاء الدينى، ووصفه الدكتور مصطفى محمود أنه مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد، تسمعه وكأنه كروان من الجنة، وكان من أشهر قراء ومنشدي مسجد الحسين.
ولد الشيخ النقشبندى بقرية دميرة، إحدى قرى محافظة الدقهلية عام 1920، انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا فى جنوب الصعيد، ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، وفى طهطا حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل قبل أن يستكمل عامه الثامن وتعلم الإنشاد الدينى فى حلقات الذكر بين مريدى الطريقة النقشبندية وأصبح له صيتًا فى القرى من حوله.
وفى عام 1955 استقر فى مدينة طنطا وذاعت شهرته منشدًا وقارئًا للقرآن فى محافظات مصر والدول العربية كان أول أجر يحصل عليه الشيخ سيد النقشبندى نظير إحيائه ليلة فى قرية “كوم بدر” مركز طهطا جنيها واحدا.
حفظ الشيخ سيد النقشبندى مئات الأبيات الشعرية للإمام البوصيرى وابن الفارض وأحمد شوقى، ودرس جميع المقامات الشرقية، وبدأ بتلحين القصائد بنفسه، ورأى أن الأدعية الدينية لا تقل أثرًا عن المحاضرات الدينية، انتقل فى الخامسة والعشرين من عمره إلى قلين بمحافظة كفر الشيخ، ثم مركز قطور بالغربية واستقر فى النهاية بمدينة طنطا.
شهرته الحقيقية كانت مع إحيائه الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين رضى الله عنه، حيث التقى بالمذيع أحمد فراج وطلب منه الحاضرون تلاوة بعض آيات القرآن، وبعد أن سمعه “فراج” طلب منه زيارته فى مكتبه وسجل معه حلقتين من برنامج “فى رحاب رمضان”، ومنذ تلك اللحظة بدأ صوته يسرى فى معظم محطات الإذاعة ليسجل بعدها أربعين دعاء.
وفى عام 1967م، طلب الإذاعى مصطفى صادق، من بابا شارو، أن تقدم الإذاعة يوميا دعاء فى رمضان بعد آذان المغرب، فقدمه بصوت النقشبندي الذى أثرى مكتبات الإذاعة بعدد ضخم من الابتهالات والأناشيد والموشحات الدينية، ليرتبط منذ ذلك اليوم اسمه بالشهر الفضيل، ويكون أحد ملامحه الأساسية حتى اليوم.
سافر النقشبندى إلى حلب وحماة ودمشق لإحياء الليالى الدينية بدعوة من الرئيس السورى حافظ الأسد، الذى كان من أشد المعجبين به، كما زار أبو ظبى والأردن وإيران واليمن وإندونيسيا والمغرب العربى ودول الخليج ومعظم الدول الأفريقية والآسيوية، وأدى فريضة الحج خمس مرات.
والتقى الشيخ سيد النقشبندى بالملحن الكبير بليغ حمدى بدعوة من الرئيس أنور السادات للتعاون بينهما فى عمل يثرى الإذاعة، وأثمر ذلك التعاون عن 6 ابتهالات، قال عنها النقشبندى فى حديثه مع الإذاعى الكبير وجدى الحكيم: «الفضل يرجع للسادات وبليغ ولو مكنتش سجلتهم مكنش بقالى تاريخ بعد رحيلى، ومن بين أشهر الابتهالات التى تعاونا فيها “مولاى إنى ببابك”».
بدأت الحكاية فى حفل خطبة ابنة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، والذى كان يحرص على وجود إنشاد دينى فى الحفلات التى يحضرها، وكان النقشبندى ضيفا فى الحفل، وأثناء قيامه بتحية السادات، أشار السادات لوجدى الحكيم وبليغ حمدى، قائلًا: «عاوز أسمع صوت النقشبندى فى الإذاعة بتلحين بليغ حمدى».
وبعد أيام حضر سيد النقشبندى لمبنى الإذاعة برفقة وجدى الحكيم، وظل النقشبندى يردد: «على آخر الزمن يا وجدى بيه يلحن لى ملحن الراقصات بليغ حمدى!»، معتقدا أن بليغ سيصنع له لحنًا راقصًا لن يتناسب مع جلال الكلمات التى ينطق بها فى الأدعية والابتهالات، وفكر فى الاعتذار حتى اتفق مع الحكيم على الاستماع لبليغ وإذا لم يعجب باللحن الذى سيلحنه سيرفض الاستمرار فى الفكرة.
ويقول وجدى الحكيم إن الشيخ النقشبندى ظل طيلة الوقت قلقا يود لو يقبل اعتذاره عن هذا التعاون، وبعد نصف ساعة من جلوسه مع بليغ فى الاستوديو، دخل الحكيم ليجد الشيخ يصفق، وقد خلع العمامة قائلًا: «بليغ دا عفريت من الجن»، وكان الابتهال «مولاى إنى ببابك» من أشهر ابتهالات الإذاعة المصرية، وعلامة من علامات شهر رمضان إلى يومنا هذا.
وتواصل التعاون بين بليغ وسيد النقشبندى فى عدة ابتهالات، وكان بليغ هو الذى يختار كلمات الابتهالات بالاتفاق مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى الذى لم يتقاض هو والشيخ أجرا عنها، من بينها: (أشرق المعصوم، أقول أمتى، أى سلوى وعزاء، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يارب إنا أمة، يا ليلة فى الدهر، ليلة القدر، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر).
والتقى الشيخ سيد النقشبندى مع سيدة الغناء أم كلثوم مصادفة خلال زيارتها للمسجد الأحمدى بطنطا، وصارت بينهما صداقة، حيث عبرت عن إعجابها بصوته وفى المقابل قال عنها النقشبندى عندما سئل فى برنامج إذاعى عمن يفضله من المطربين قال: أم كلثوم، فهذه السيدة وفقت فى غناء القصائد مثل ولد الهدى وكان لها فى قلوب المصريين مكانة كبيرة.
ومن المواقف الطريفة التى تعرض لها النقشبندى عام 1969 أثناء حفل أضواء المدينة وكان من عادة المذيع جلال معوض الاستعانة بإحدى الفنانات لتقديم الشخص أو النجم على المسرح، وكانت مقدمة هذا الحفل الممثلة زبيدة ثروت التى خرجت لتعلن عن مفاجأة الحفل الشيخ سيد النقشبندى، وساد الصمت الجميع إذ كيف يشارك فى حفلات غناء وتقدمه إحدى الفنانات وهو القارئ للقرآن أيضًا.
وغضب منه شقيقه إبراهيم غضبا شديدا خاصة بعد استعانته بفرقة صلاح عرام الموسيقية لإجراء بروفات الحفلة، إلا أنه من كثرة إبداع النقشبندى فى ذلك الحفل سارع الشقيق الغاضب ليرتمى فى أحضان شقيقه، ويقبل جبينه ودموع الفرح تنهمر من عينيه.
تعددت وتنوعت ابتهالات “النقشبندي” التى تبهج القلوب والأسماع كلما أذيعت ومن أشهرها: سيدى يا رسول الله، الله يا الله، اللهم إنى صمت فتقبل صيامى، أغيب وذو اللطائف لا يغيب، النفس تشكو، أشرق الكون بالهدى، سبحانك اللهم، لما بدا فى الأفق، إليك وجهت وجهى، الله مولانا، تلطفى يا ريح، الصلاة على الحبيب، مولاى إنى ببابك الذى تقول كلماته:
مولاى إنى ببابك قد بسطت يدي/ من لى ألوذ به إلاك يا سندي/ أقوم بالليل والأسحار ساجية أدعو وهمس دعائى بالدموع ندي/ بنور وجهك إنى عائد وجل/ ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد/ مهما لقيت من الدنيا وعارضها/ فأنت لى شغل عما يرى جسدى تحلو مرارة عيش فى رضاك.. حتى يصل إلى قوله: كل الخلائق ظل فى يد الصمد/ أدعوك يا رب أدعوك يا ربى فاغفر زلتى كرما/ واجعل شفيع دعائى حسن مرتقبى.
ورحل الشيخ النقشبندى عام 1976 عن 56 عاما، أثناء خروجه من مبنى التليفزيون، حيث وضع يده على قلبه متألما ثم سقط على الأرض، وحين خلعوا عنه ملابسه وجدوا ورقة مطوية فى جيبه عبارة عن وصيته مكتوب فيها: «أشعر أننى سأموت، أوصيكم بدفنى إلى جوار المرحومة والدتى، فى مقابر الطريقة الخلوتية بالبساتين».
كما كتب: «لا تقيموا لى مأتما ويكفى العزاء والنعى بالجرائد»، وأوصى برعاية زوجته وأطفاله، وقد شهد على الواقعة الملحن حلمى أمين الذى قال فى جريدة الجمهورية وقت رحيل النقشبندى: «ما كاد الشيخ النقشبندى ينتهى من تسجيل أحد الأدعية الدينية (سبحانك ربى سبحانك.. سبحانك ما أعظم شانك) حتى غادر الاستديو بخطوات بطيئة، واندس فى زحام مصعد مبنى التليفزيون، رأيته فجأة وضع يده على قلبه فى سرية لم يشعر به أحد والألم يرتسم على ملامح وجهه، وهبط الأسانسير واتجهت إليه أسأله هل هناك شيء؟ فقال «الحمد لله» وهو سائر فى اتجاه باب المبنى، وفجأة سقط على الأرض، وتجمع حوله الناس من يعرفه ومن لا يعرفه، وحملوه إلى بيت أخيه وهو يحتضر وذهبت روحه إلى بارئها، بعد أن نطق الشهادتين أمام الجميع وعندما نزعوا عنه ملابسه وجدوا فى جيبه وصيته.
وحصل الشيخ سيد النقشبندى على مجموعة من الأوسمة والنياشين من مجموعة من الدول التى قام بزيارتها، وعقب وفاته كرمه السادات عام 1979 بوسام الجمهورية من الدرجة الأولى، ومنحه حسنى مبارك وسام الجمهورية بعد رحيله أثناء احتفال ليلة القدر عام 1989، وأطلقت محافظة الغربية اسمه على أكبر شوارع طنطا، المدينة التى عاش فيها منذ عام 1955 مجاورا لمقام العارف بالله أحمد البدوى فى المنزل رقم 6 حارة القصبى، حتى بعد شهرته.