تحكيها سناء الكراس.. فكرى أباظة يرسم شوارع القاهرة فى رمضان الخمسينيات
فى مجلة المصور عام 1956، كتب الصحفى فكرى أباظة الملقب بالضاحك الباكى، والذى عرف بكتاباته الساخرة مقالا رمضانيا قال فيه:
جاء الشهر الكريم، شهر الخير والبركات، شهر رمضان، ومع مجيئه أصبحت القاهرة مثل شهرزاد تنام بالنهار لتسهر الليل كله، ولو مررت فى حوارى العاصمة أثناء النهار لأصابك العجب، كل شيء نائم حتى الكلاب والقطط، تفقد البلد النشاط تماما، فلا تصحو المدينة إلا بعد الظهر وقرابة المغرب، هنالك تفتح المحال التجارية أبوابها، وتمتد فيها الحركة، ويخيل للإنسان أن الدنيا ولدت من جديد.
فقبل أذان المغرب المساجد عامرة بالمصلين، ولو مررت بمسجد الحسين لرأيت العجب العجاب.. مئات الناس جالسون فيه بملابسهم المنزلية وكأنهم فى بيوتهم، هؤلاء الناس يقيمون هذا الشهر كله فى المسجد يصلون ويتلون الأوراد ويشتركون فى حلقات الذكر، أحضر كلٌّ منهم لوازمه فى صندوق صغير وضعه إلى جانبه، وتحول المسجد إلى خان، وباعة من كل صنف، وأصبح صحن المسجد عند الميضة أشبه بالسوق، يباع فيه كل شيء من الجرجير إلى الكراسى المطعمة بالصدف، ومن شيلان الكشمير والسبح والطواقي، إلى السيوف.
وإذا أقبلت ساعة الإفطار.. هاهم المؤذنون يؤذنون للمغرب على أبواب المساجد وفوق المآذن، الأولاد يتصايحون، والسكون يخيم على البلد من جديد، فقد تجمع الناس حول موائد الإفطار، حتى المعدمين والشحاذين والدراويش والمجاذيب، وهم أولئك الذين يعيشون مع الله دون عمل.. هؤلاء قدمت لهم الموائد الكبيرة فى ردهات بيوت الأغنياء، وأمامها فيما يسمى بموائد الرحمن.
هذه البيوت التى كانت تسمى، إذ ذاك، «منازل العز» فى حوارى السكرية والجودرية والمشهد الحسينى وسوق السلاح، كل واحد من هؤلاء الشحاذين والدراويش له مكان معروف على مائدة الكبراء يتناول فيه إفطاره، وهو يجلس إلى مكانه من الطبلية مع المغرب يقوم عليه الخدم ويشرب الماء المحلى بماء الورد والسكر، ويأكل الرقاق والقطايف، ويشرب القهوة، ثم تقدم له الشيشة فيملأ منها رأسه، وإذا فرغ من الطعام يتمشى فى المسجد لكى يصلى العشاء، ثم يعقبها بعشرين ركعة من التراويح.
فإذا انتهت التراويح عاد البشر إلى النفوس وغادرتها هموم الصوم، ومضى كل إلى حيث يقضى سهرة ممتعة تمتد حتى ساعة السحور، وهذه السهرات أصناف وألوان، فلنمضِ مع الناس من ناحية إلى ناحية حتى ننعم بشيء من متاع رمضان الكريم.
فى المقهى جلوس على دكك خشبية، وقد جلس بينهم الشاعر ممسكًا بالربابة ينشد حكايات أبو زيد الهلالي، وسط السهرة يظهر من بعيد صوت المسحراتى بفانوسه المضيء يطوف شوارع الحي، يقف عند كل باب، وينادى صاحبه باسمه ويدعو له بطول العمر.
أما أنا فإننى أحب أن أصعد إلى أعلى مكان فى القاهرة كلما جاء رمضان.. إلى برج الجزيرة أو إلى جبل المقطم وأنظر منه فأجد الناس فى أحجام النمل، وأحب السهرات الشعبية حيث تظهر روح رمضان فى تلك الأحياء، فرمضان فى السيدة زينب والحسين مازال لها نفس طعم رمضان أيام زمان، الترابط بين الناس، مأكولات رمضان، الكنافة والقطائف، سهرات مقهى الفيشاوى أماكن تجمع الأدباء والكتاب أمثالى، دخول الناس المسجد ليل نهار، فلو نقلت مثلا هذا الجو إلى الزمالك أو جاردن سيتى فإنه سيفقد روحه.