رئيس التحرير
عصام كامل

الحنين


ليس غريبا أن تعود إلى مسقط رأسك مرة أخري مبتعدا عن أضواء القاهرة وصخبها وضوضائها إلى مدينتك الصغيرة مرة أخرى تتمشي في شوارعها وتتلمس جنبات الحواري فيها، انتهيت من مقابلة أحد الأصدقاء القدامي وجلسنا على مقهي صغير بجوار محطة القطار تلك التي شهدت سنوات من السفر إلى كليتي في قطار درجة ثالثة، قمت لأشتري علبة سجائر من محل متواضع لأجد أحدهم بداخله يسألني " أحمد" ؟


نظرت إلى ملامح الرجل وأنا أحاول أن أستعيد الوجوه من الذاكرة ولكن فشلت تماما، ابتسم وهو يقف ويسلم على " فين أراضيك مش عارفني أنا مصطفي وده رضا ولاد أم محمدي " وتداعت الذاكرة فجأة لأتذكر سنوات من الدفء في شارعنا الصغير والبيت الصغير من دور واحد الذي تعيش في غرفه الأربع أربع عائلات بزوجاتهم وأولادهم ثم هدم منذ سنوات ليتوسع المسجد على حسابه، تركتهم والذاكرة تنزف ذكريات.

فهذا الحلاق المسيحي عم هاني والذي كان يحب والدي جدا حتي عندما كان يجهز حقيبته ليسافر لأداء العمرة قال له عم هاني " ينفع تاخدني معاك "، هنا بجوار بيتي أطلال بيت الأستاذ فتحي مدرس اللغة الفرنسية تحول إلى بيت مهجور وترك الذكري أما بقية الشارع فقد امتلأ بالمحال والأنوار بعدما كان شارعا هادئا بسيطا، محال موبيل، تكييف، ملابس، لحوم مصنعة، كوافير حريمي وغيرها من المحال، ثم سيارات فارهة تسير هنا وهناك والعشرات من المقاهي الفخمة.

صليت الجمعة في ذلك المسجد الذي أمام بيتي ودخلت أتفحص الوجوه.. وجوه جديدة ووجوه شابة تغضنت بعمر الزمن، وفي آخر الجامع صفت مقاعد صغيرة جلس عليها العجائز واستطعت أن ألمح من بين الوجوه شديدة العجز وجها أعرفه جيدا عم عبد العزيز البقال ذهبت لأسلم عليه ومددت يدي ولكنه ابتسم فقط ومد يده وفقط ، ادركت من لون عينيه وحجم نظارته أنه فقد بصره. ذكرت له اسمي واسم أبي فضحك وقال ببساطة " إزيك وازاي أبوك " وسألته عن رجال الشارع الذي تركته منذ خمسة عشر عاما وجدت معظمهم وقد مات.

خرجت من المسجد لأقابل صديقا قديما كان معي في الجامعة وجدته وقد انحسر شعره بشده وارتدي نظارة طبية سميكة وسقطت معظم أسنانه كان اسمه تامر والاسم في هذه الحالة لا يليق به، ضاحكني بفم أهتم إلا قليلا وهو يشكو من داء السكر اللعين، ثم داعبني بأنني لم أتغير كثيرا فقد تسلل البياض إلى شعري أما قوامي فما زال كما هو. ضحكنا واحتسينا القهوة ثم تركته مودعا وسرت في بقية المدينة الصغيرة أتلمس الجدران وأتذكر أيام الطفولة والشباب، كل ركن وكل عطفة وكل حارة، ولكن الزمن يتغير والأماكن تغيرت والأشياء تدور حول نفسها بقسوة . فعقارب الزمن لا ترجع للوراء مهما فعلنا.

الجريدة الرسمية