إيران تتمدد
الخرائط تتغير يوما بعد يوم، والحرائق تستعر ساعة بعد ساعة، والامبراطوريات الكبرى تتموضع لحظة بعد لحظة، والغائب عن المشاهد الحاصلة فى الكرة الأرضية لا شك ينتظر المكان الذى ستحدده القوى الكبرى له دون اختيار منه أو اعتراض أو احتجاج.
تخرج أمريكا من محيطنا العربى الشعبى بدعمها اللامتناهى للعدوان على غزة، ومع خروج أمريكا لم يدخل بديل غيرها حتى تاريخه، فالصين منهمكة فيما يحيط بها من تحديات، ويبدو أنها ترضى من العم سام بقاء آمنا لها كوحدة جغرافية متماسكة، وهى غير مشغولة إلا بالسيطرة على المواد الخام دون أن تقدم دورا سياسيا دوليا قادرا على حماية مصالحها لدى الغير.
أما روسيا فإن لديها ما يجعلها غارقة حتى الأنف فيما يجرى لها وعليها من وقائع حربية فرضتها ظروف أمنها القومي، ولاتزال حتى تاريخه تُستنزف فى حرب بدأتها غير أنها لا تملك قرار إنهائها، وأوربا لا تزال تراوح مكانها ما بين الاستقلال عن أمريكا أو الانصياع لها بقليل من الشروط.
العرب فيما يتناحرون مذاهب، فمنهم من اختار الذوبان فيما تقرره تل أبيب، ومنهم من يرى أن البقاء فى الحضن الأمريكى هو الطريق الأكثر حظا لبقاء ممالكهم كما هى دون النظر إلى فكرة الخروج الأمريكى الشعبى، فلطالما قال العم سام إنه يفضل دوما أن يتعامل مع فرد أو حاكم دون الشعب فى وطن تتمدد فيه الديكتاتوريات بشتى ألوانها وصنوفها وأنواعها.
والمدقق لما جرى فى منطقتنا منذ عصر الاستقلال الوطنى الأول، يدرك أننا خرجنا من عباءة احتلال أجنبى إلى احتلال وطنى لم يستطع أن يقيم أود الدولة القومية أو الدولة الوطنية بأدوات تغيير سلمى، فلم يحدث تغيير سلمى بها إلا فيما ندر وكانت الدبابة هى القاسم المشترك فى عمليات التغيير الوهمي.
إيران تتمدد وتركيا تتوسع
ويبقى الصراع العربى العربى واحدا من أكثر المسائل تعقيدا، فما تفرضه الجغرافيا السياسية على دول مركزية للاضطلاع بدور قيادى وريادى تراجعت فيها الجغرافيا السياسية فى مواجهة الفوضى والاقتتال الداخلى والسقوط فى مستنقع الديون، فلم تعد بغداد هى بغداد، ولم تعد دمشق كما كانت، ولم تعد القاهرة قاهرة!
وطفا على السطح فى منطقة زمنية هى الأكثر خطورة فى تاريخ العرب نماذج قيادية فرضت نفسها فرضا فى ظل غياب العواصم الكبرى، لتصبح بوصلة الأحداث بأيديها دون قدرة حقيقية على القيادة والإدارة وفرض تموضع حقيقى يليق بأمة تمتلك من المقومات ما يجعلها جزءا من الإسهام الحضارى البشرى.
صور النهايات المحتومة تصبح أكثر وضوحا مع تصاعد الأحداث وتقسيم الخرائط من جديد ليظل العالم العربى كما هو حبيس الدارين، دار الاحتلال الأجنبى عن بعد، ودار الاحتلال الوطنى عن قرب، والنتيجة كيانات هشة وضعيفة وغير قادرة على حماية قرارها.
على أطراف خريطتنا وفى الجوار تتمدد إيران وتتوسع تركيا.. إيران التى تدير نصف خارطة العرب من غزة إلى بيروت وإلى بغداد وإلى دمشق وتناطح واشنطن فيما تذهب إليه من رسم خارطة جديدة للمنطقة لابد وأن تأخذ نصيبها الذى تستحقه كنظام قادر على فرض أدواره.
أما تركيا فقد استفادت من تغييب بغداد مثلما استفادت إيران واستغلت الإنهاك السورى مثلما فعلت تركيا التى تعبث بخارطة سوريا كيفما تشاء وأينما أرادت فى ظل خروج عربى كامل من العراق ولبنان وسوريا وترك الساحة والانشغال بإزاحة بعضنا بعضا وخلق زعامات وهمية!!
إن خارطة العالم الجديد تشى بوجود عربى واهن وضعيف ومستسلم وخانع وذليل، وهى ذات الخارطة التى تتعملق فيها كيانات أخرى على حساب الانكماش العربى المخزى وسيطرة الضبابية على الرؤية العربية التى باتت على المحك دون أمل فى تصور يحمى مصالح ومستقبل الأجيال القادمة.