فى رحاب مولد السيد المسيح عليه السلام
تمهيد
الحمد لله القائل فى كتابه الكريم "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" (الآية 90 من سورة الأنعام).
والصلاة والسلام على رسل الله وأنبيائه من نعلم ومن لا نعلم، ورضى الله -عز وجل- عن أوليائه والصالحين والمصلحين أجمعين وبعد، فانطلاقا من تذكرة طيبة تعيها آذن واعية "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الآية 176 من سورة الأعراف)، يجيء الاحتفاء والاحتفال بمولد السيد المسيح عليه السلام بعيدًا عن الإثارة الوجدانية، أو العصبية الدينية، رؤية إسلامية دون تطرق إلى مسائل أو قضايا عقائدية، رؤية توقير وتقدير للسيد المسيح عليه السلام..
"إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ" (الآيتان 110 وما بعدها من سورة المائدة).
ولد السيد المسيح عليه السلام من غير أب بمشيئة الله القادر، تكفى نفحة الروح "فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الآية 91 من سورة الأنبياء). وكما جاء فى نبوءة أشعياء "ها هى العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (أشعياء إصحاح 7، عدد 14)، وكلمة عذراء تعنى أنها لم تتزوج ولم يمسسها أحد، بل هى آية من آيات الله عز وجل..
فتلك النفخة في مريم البتول عليها السلام معجزة فى حد ذاتها، وأمر خارق مثل ما أوتى من معجزات بعد ذلك "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا" (الآية 12 من سورة التحريم) وهى قدرة الله العظيم ففى أشعياء "يقول الرب: أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيرى" (إصحاح 44– عدد 6 – 7) (هكذا يقول الرب: أنا الرب صانع كل شئ، ناشر السموات، وحدى باسط الأرض) (إصحاح 44 عدد 25).
لمحات إسلامية موجزة
روى ابن عساكر بالسند عن معتمر بن سليمان -رحمه الله تعالى- قال خرج عيسى على أصحابه الحواريين، وعليه جبة صوف، حافيا باكيا مصفر الوجه، قال: أتدرون أين بيتى؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتى فى المساجد (أى مكان عبادة)، وعطرى الماء، وطعامى الجوع، وسراجى القمر، وصلاتى بالليل ومشارق الشمس، وريحانى بقول الأرض، ولباس الصوف، وشعارى خوف الله، وجلسائى الفقراء والمرضى والمساكين، أصبح لى شئ، وأمسى وليس لى شئ، وأنا طيب النفس، فمن أغنى منى وأربح ؟ (قصص الأنبياء لابن كثير).
عاش السيد المسيح عليه السلام فى طفولته فى بلدة الناصرة، مع أمه -عليها السلام- بإقليم الجليل الجزء الشمالى بفلسطين، والبيئة آنذاك يهودية عبرية فلسطينية، ومن أوصافه فى العقيدة الإسلامية أنه: أبيض البشرة، ناعم الشعر متهدل على كتفيه، بهى الطلعة، تحفه هالة من الخشوع والورع، زاهدًا لا يتخذ متاعًا، ولا ثيابًا فاخرة، ولا مالا ولا رزقا، إلا قوت يومه، من بقول الأرض، وأغلب أيامه صائما..
كان يرتدى ثوبًا من الصوف الخشن، يبدو فيه أعظم بهاء وجلالا من الملوك والكهان، وأينما يسير يصاحبه عبير عطرى زكى، وإذا غربت الشمس، يعيش فى محرابه بالخلاء، سراجه القمر والنجوم، غطاؤه السماء، هائم فى ذكر ربه، فى صلاة وخشوع، وخوف ورجاء، حتى يصبح، جلساؤه ذوى الحاجات، جهاده فى مساعدة البؤساء، حياته تشبه حياة الملائكة والنساك، لم يقرب النساء، عاش متبتلًا لله عز وجل (الرسالات السماوية بين الزمان والمكان د. سميحة إبراهيم مسعود، ط الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة)
جاء معلمًا "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ *وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الآيتان 48 وما بعدها من سورة آل عمران)، وصحح مفاهيم، وله معجزاته، وقوبل بثورة مضادة من اليهود وغيرهم.
له فى التراث الإسلامى تكريم فمن ذلك: "رأى عيسى رجلا يسرق، فقال: فلان سرق، قال الرجل: لا والله ما سرقت، قال عيسى: آمنت بالله وكذبت بصرى"، وقال النبى محمد "الأنبياء أخوة دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم حكما عدلا" (أخرجه البخارى).
أثنى القرآن الكريم على أتباعه من الحواريين "وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً" (الآية 27 من سورة الحديد)، وضرب بهم المثل فى التدين اليقينى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ" (الآية 14 من سورة الصف)
وعلى أتباعه وخاصة الرتب الكنسية "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (الآية 82 من سورة المائدة).
وحظى مسيحيو مصر بوصايا نبوية محمدية منها: "إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لكم فيهم ذما ورحما" (رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن كعب بن مالك).
ومما يجدر ذكره إسهام المسيحيين فى الحضارتين الإسلامية والعربية، فمنهم علماء وخبراء وكتاب ومفكرون مع إخوتهم المسلمين، وهم مجتمعون لهم أثر بالغ فى النهضة والحضارة المعاصرة فى أوربا وأمريكا وغيرها.
ثم أما بعد: نحتفى بميلاد السيد المسيح عليه السلام، ونوقره ونقدره، ونمد أيادى التسامح للمسيحيين أهل الكتاب، من مصر الأزهر والكنائس (المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة).
كل ميلاد عام والإنسانية بخير وسلام.