من باب المندب إلى صحراء النقب
بعد خروج بنى إسرائيل من مصر على يد نبى الله موسى عليه السلام، انقسم بنى إسرائيل إلى مجموعتين، الأولى أرادت مواصلة السير نحو الأرض المقدسة والثانية لأنها لم تكن عرقيا من بنى إسرائيل، ولكن فقط لأنها آمنت بنبى الله موسى وكان منهم مصريون وخدم وعبيد..
فقد رفض بنى إسرائيل اصطحابهم معهم ومشاركتهم لهم بالعيش في الأرض المقدسة لأسباب عنصرية، مثلما ترفض إسرائيل اليوم السماح للفلسطينيين أصحاب الأرض بالعيش والبقاء في أرضهم أرض فلسطين.
وهكذا شكل هؤلاء المبعدون المنبوذون مجموعة بقيادة نبى الله هارون عليه السلام، وقد تناولت هذا الحدث التاريخى بالتفصيل والدليل في كتابى المعنون ب القبيلة المصرية المفقودة، الذى صدر عام 2016م بالقاهرة عن دار نشر النديم..
ولأن المجموعة الثانية التى خرجت مع موسى عليه السلام لا تنتمى عرقيا لبنى اسرائيل فقد اتجهت إلى منطقتين، الأولى إلى أطراف الجزيرة العربية والعراق وحتى بلاد فارس، والثانية إلى اليمن والحبشة ومنهم يهود الفلاشا..
وحاولت المجموعة الأولى كما اخبرنا القرآن دخول الأرض المقدسة لكنهم بسبب ارتدادهم وعدم طاعة نبيهم موسى عليه السلام عاقبهم الله بأن كتب عليهم التوهان أربعين سنة، وخلال تلك الفترة فقدو احداثيات العبور..
باب المندب
فالدخول إلى الأرض المقدسة يتطلب تفاصيل دقيقة وأولها وجود التابوت المُقدس الذى كان في عهدة نبى الله موسى عليه السلام، في منطقة معينة من صحراء فلسطين، وبعد أن تركهم نبى الله موسى وكتب الله عليهم التيه فقدوا التابوت، وفقدوا احداثيات المكان..
وظل بنو اسرائيل ينقبون عن أثر المكان الذى حدده نبى الله موسى كباب شرعى لدخول الأرض المباركة، حتى أن تلك المنطقة سميت بصحراء النقب، ولأن الأمر فوق التصور فلنعد لمربط الفرس في هذا المقال، المهم بقت المجموعة التى توجهت إلى اليمن تنتظر الخبر السعيد بالسماح لها بالعودة والانظمام إلى البقية ورفع الحظر العنصرى عنها..
ومع كل مركب قادم إلى اليابسة يصاب المنتظرون باليأس والإحباط ويكثر النحيب والدموع ويُفقد الأمل في قدوم خبر لم الشمل والعودة إلى الأرض المباركة ورفع الحظر عنهم، وبمرور الزمن أصبحت المنطقة الواقعة بين البحر واليابسة منطقة انتظار وبكاء ونحيب ونديب حتى إن المنطقة أطلق عليها إسم باب المندب، أو بوابة البكاء..
فالمندب نسبة للنديب وهو الحزن الشديد والبكاء واللوعة، وكان من عادة النساء في الجاهلية أن يندبوا الأموات، كما أن بنى إسرائيل يعتبرون النحيب والبكاء جزء من الناموس وطقوس العبادة، ونحن نعرف أن أكثر أماكنهم قداسة هو حائط المبكى أو جدار الدموع..
فهم يؤمنون بأن البكاء هو سبيل لطلب معونة الله سبحانه فهو شكل من أشكال الدعاء والتذلل، فالنَّدْبُ لغة هو أَن يَنْدُبَ إِنسانٌ قومًا إِلى أَمر، أَو حَرْبٍ، أَو مَعُونةٍ أَي يَدْعُوهم إِليه، فَيَنْتَدِبُون له أَي يُجِـيبونَ ويُسارِعُون ونَدَبَ القومَ إِلى الأَمْر يَنْدُبهم نَدْبًا.. دعاهم وحَثَّهم..
من جهة أخرى يقال إن باب المندب جاء ذكره في المساند الحميرية، وإن اسمه من ندب أي: جاز وعبر من العبور وهذا لا علاقة له بالعبرانيين، وهناك رأي يقول إنه من ندب الموتى ويربطه بعبور الأحباش إلى اليمن.
وفي رواية أخرى، سمي بباب المندب لأن الناس قديما كانوا إذا غزوا الأفارقة وسبوا بناتهم واستعبدوا أولادهم ينقلونهم إلى الجزيرة العربية عبر هذا المضيق، فكانت العائلات يبكين على فقد أولادهن هناك.
كما أن هناك أسطورة أخرى تقول إن سبب التسمية يعود إلى عدد الذين غرقوا في البحر بسبب تضاريس الشواطىء الصخرية التى تتحطم بسببها المراكب، والتى تسببت في موت أشخاص كثر،
وهكذا بكى بنى اسرائيل كثيرا في انتظار الخبر السعيد، وهو العثور على التابوت المقدس، والعثور على بوابة أو باب الأرض المباركة، في المنطقة التى تاهو عنها وفقدوا أثرها..
ولأن الناس في اليمن كرهت إسم المندب ورمزيته الباكيه وتشائمت منه، فأطلقوا على البر إسم اليمن السعيد تحاشيا لإسم المندب ورمزيته الكئيبة، والآن تتشابك الأحداث وتتداخل السياسة بالجغرافيا بالدين بالتاريخ في أمور كثيرة..
إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت
فبعد إعلان قيام الكيان الاسرائيلى، عام 1948 جرت عملية استجلاب لأحفاد أولئك التائهون، وسميت العملية وقتها بإسم بساط الريح، أو كما يطلق عليها الغرب عملية على جناح النسر، وهي عملية تهجير نفذتها الوكالة اليهودية لترحيل نحو 49 ألف يهودي من يهود اليمن إلى إسرائيل في الفترة من يونيو 1949 م إلى سبتمبر 1950م، على متن طائرات أمريكية وبريطانية عبر عدن..
ووقتها كانت القوات البريطانية تسيطر على المنطقة، وحاول ساسة إسرائيل الإحتماء بالعهد القديم عن طريق الزعم بأن عملية التهجير هى تنفيذ لتوصيات ربانية، حتى أنهم زعموا أن إسم العملية أتى من العهد القديم من سِفر الخروج الإصحاح 19 الفقرة 4: «أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلي»..
وهكذا تم استخدام طائرات نقل امريكية وبريطانية فيما يقارب 380 رحلة من اليمن إلى فلسطين المحتلة، والآن أصبحت أرض اليمن جزء من الحرب الدائرة بسبب الوحشية التي يقوم بها جيش الإحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة الملاصق لصحراء النقب..
ولأن مخططات الصهاينة وصدى التاريخ وتأثير معارك الماضى وأحلام مملكة من البحر إلي النهر وخرائط مملكة سليمان الاسطورية عليه السلام، وهي طموحات غريبة في مخيلة ساسة إسرائيل التى إتضح أنهم غارقون في بحر من الخيال والوهن، حتى أن صحيفة معاريف الاسرائيلية كتبت بأنه يوما بعد يوم وبعد شهرين من العدوان وتدمير قطاع غزة تثبت الأيام صحة وحقيقة أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت.
وتوجهت الصحيفة إلى الجمهور الاسرائيلي بالقول: حيثما نظرتم حولكم في هذه الحرب اللعينة، على نحو ظاهر، بما في ذلك بهجة القتال لدى الأولاد المندفعين في الهجوم والجنرالات الذين يخططون للانتصار على العدو بشكل كامل الأوصاف وكأنه إبداع موسيقي، فقد خسرنا.
وأضافت الصحيفة هذه ليست الحرب التي ننتزع من ثمنها الرهيب تغييرًا وأملًا، وهذان ليسا الجيش والمجتمع المدني اللذان يؤديان مهمتهما اليوم. هذه هي الدولة التي تتدهور إلى الهاوية بينما تتناثر أشلاؤها في كل صوب.
ووجهت كلامها إلي نتنياهو بالقول: إنه الملك الذي وهو في طريقه إلى الهاوية والخسارة يأخذ معه الدولة، ليس وحيدًا، إنما حوله جوقة متزلفين ينهشون جثة الدولة بضحكات صاخبة..
وهكذا تعيد صواريخ الحوثى الأمور إلي نصابها، فعدالة التاريخ لا يختلف عليها ذوى العقول فقد ترك بنى إسرائيل المؤمنين بنبى الله موسى من غير الاسرائيليين ينتظرون قرون طويلة في محنة الشتات، وأحلام الخبر السعيد والعودة التلمودية كما يزعمون باطلا، وها هم المنسيون أطلال النادبين والبكائين يرجمون بيت العنكبوت الواهى برشقات من صواريخ وطائرات مسيرة كأجنحة النسور.
وربما هى مجرد تذكير بالماضى وكأنه انتقام، وربما تفاؤلا بالحاضر أكثر منها منازلة مؤثرة خصوصا وأن أبطال المقاومة متكفلون بالمواجهة بلا كلل أو ملل وبشجاعة منقطعة النظير.