هل باع الفلسطينيون أرضهم لليهود؟!
لا صوت يعلو فوق ما يحدث الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل الكيان الصهيوني وسط تلك المقاومة الباسلة من الفلسطينيين ولم تكن تلك المقاومة وليدة ما حدث فقط في السابع من أكتوبر لهذا العام.. ولكنها مستمرة منذ سنوات بل وعقود تعب الكثير من عدها حتى أن البعض بدأ يتعامل مع ما يحدث هناك على أنه الأمر الواقع..
ولكن جاءت عملية طوفان الأقصى لتذكرة من تسلل لقلبه وعقيدته نسيان تلك القضية الأزلية.. ورغم سقوط الآلاف ما بين شهداء ومصابين من إخواننا الفلسطينيين ما بين شباب وأطفال ونساء وشيوخ ولكن قوبلت العملية بحالة من الفرحة والانتصار العربي.
لم يعكر صفوها إلا تلك الأصوات المتخاذلة وتلك العبارة المترددة بين الحين والآخر في كل مناسبة تذكر فيها القضية الفلسطينية.. وهي أن يأتيك ذلك الصوت إما في شكل معلومة يلقيها قائلها على مسامعك «ما الفلسطينيين هم اللي باعوا القضية».. وما إن تحاول استيعاب تلك الصدمة حتى يأتيك ذلك السؤال الثعباني.. هل الفلسطينيون باعوا أرضهم لليهود ؟!..
وحتى لا نكون كمن يدفن رأسه في الرمال كالنعام علينا أولا أن نتيقن أن هذا السؤال لم يكن الغرض من قائله الحصول على إجابة وإنما هو من وجهة نظره سؤال تقريري يملك الإجابة القطعية عليه وهي بالطبع نعم.. ولكن كيف يكون نعم وإن كان كذلك فلما كل هذه السنوات من النضال المستميت والتمسك بالأرض والمقدسات على الأراضي الفلسطينية ومحاولة انتزاعها من أيدي المغتصب المحتل.
وقبل أن نشرع في تقديم إجابة كافية وافية عن ذلك علينا أولا قبل أي شيء أن نلوم أنفسنا بتخاذلنا عن تحرى الدقة والاكتفاء فقط بتداول تلك الأكذوبة التي ألقاها إلينا الفكر الصهيوني ومن عاونهم بقصد أو بغير قصد. وهنا نجيب عن السؤال: هل الفلسطينيون باعوا أرضهم لليهود؟!.. بالطبع لا وألف ألف لا.
دعاية صهيونية
تلك الأكذوبة روجت لها الدعاية الصهيونية على أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود، وأن اليهود إنما اشتروها بـ«حر مالهم» وعليه أي تضامن مع القضية الفلسطينية يأتي بعد ذلك لا محل له من الإعراب.
ترجع تلك الأكذوبة لبدايات القرن الـ 19 مع الترويج لفكرة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.. وهي أنه لا يوجد شعب على أرض فلسطين وفي المقابل الشعب الإسرائيلي من حقه الاستيطان بتلك الأرض.
وما يهدم تلك الفكرة جملة وتفصيلا ما حدث في العقد الأخير من القرن الـ 19 حينما أرسل ماكس نوردو، أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين إلى ثيودور هرتزل، بحاخامين لإعداد تقرير له حول إمكانية هجرة اليهود إلى أرض فلسطين ليفاجئ بأن كتبا تقريرًا جاء فيه: إن فلسطين عروس جميلة، ولكنها متزوجة فعلًا من رجل آخر..
وما يجهله الكثير عن محاولة الزحف الصهيوني والاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية يرجع لعام 1948 كما يعتقد الكثير ولكنها خطة قديمة وترجع منذ أيام الدولة العثمانية حينما وقع الصدام بين الفلاحين الفلسطينيين وبين المستوطنين اليهود عام 1886، وعندما جاء رشاد باشا محاولا أن يبدي تأييدًا للجانب الصهيوني قام وفد من كبار ومشايخ القدس بتقديم الاحتجاجات ضده في مايو 1890..
وفي 24 يونيو 1891 تقدموا بعريضة للصدر الأعظم (رئيس الوزراء) في الدولة العثمانية طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم تملكهم للأراضي فيها.. وزادوا على ذلك بأن شدد علماء فلسطين وممثلوها لدى السلطات العثمانية، وكذلك الصحف الفلسطينية، بالتنبيه من خطر الاستيطان اليهودي والمطالبة بإجراءات صارمة لمواجهته.
فساد العثمانيين
وقد ترأس الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 هيئة محلية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل ملكية الأراضي لغير الفلسطينيين وظلت تلك المحاولات مستمرة ما بين الجانب الصهيوني المتسلل للداخل الفلسطيني وبين أصحاب الأرض الرافضين.
ورغم المقاومة سواء من الفلسطينيين أو حتى السلطان عبد الحميد وقتها والسلطات المركزية التي أصدرت تعليماتها بمقاومة الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين ولكن كعادة اليهود الصهاينة استغلوا الفساد في الجهاز الإداري العثماني من خلال الرشاوى فتكمنوا من شراء الكثير من الأراضي..
وساهم في ذلك سيطرة حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد سنة 1909.. وبسبب أن النفوذ اليهودي الصهيوني كان متوغلا بشكل كبير داخل الحزب مما سهَّل تملك اليهود للأرض وهجرتهم لفلسطين.
ومع نهاية الدولة العثمانية في 1918 كان اليهود قد حصلوا على حوالي 420 ألف كم وهو ما يعادل 1.5% من أرض فلسطين.. ولكن مهلا تلك المساحة اشتراها اليهود بالفعل ولكن اشتروها من ملاك إقطاعيين لبنانيين ينتمون إلى عائلات مثل: آل سرسق، وتيان، وتويني، ومدور..
وحتى انتقال تلك الأراضي للإقطاعيين اللبنانيين لم يكن عن طريق أصحاب الأرض من الفلسطينيين ولكن في سنة 1869 عندما اضطرت الدولة العثمانية لبيع أراضي الدولة لتوفير بعض الأموال لخزينتها قامت بشرائها عائلات لبنانية غنية والتي قدرت مساحتها بحوالي 625 ألف كم.
وتم انتقال ملكيتها من الإقطاعيين اللبنانيين لليهود على النحو التالي: عائلة سرسق باعت أكثر من 200 ألف كم مما تسبب في تشريد 2.746 أسرة من أهالي 22 قرية فلسطينية كانت تزرع تلك الأراضي بالإضافة إلى بيع 120 ألف كم حول بحيرة الحولة شمال فلسطين..
كذلك باعت أسرتان لبنانيتان أراضي وادي الحوارث ومساحتها (32 ألف كم) مما تسبب في تشريد 15 ألف فلسطيني لتصل مساحة الأراضي الزراعية التي باعها ملاك اقطاعيين من خارج فلسطين - ينتمون لعائلات لبنانية وسورية وجنسيات أخرى- خلال الفترة من 1920-1936 لحوالي 55.5% مما حصل عليه اليهود من الأراضي الزراعية.
مشروع الاستيطان الصهيوني
وبعد انهيار الدولة العثمانية وسقوط فلسطين تحت الاستعمار البريطاني بين عامي 1917حتى 1948.. أصبح الطريق أمام مشروع الاستيطان الصهيوني أسهل وأيسر بكثير حتى بلغ مجموع ما استولى عليه اليهود الصهاينة خلال فترة الاحتلال البريطاني قرابة 1.2 مليون كم أي حوالي 4.5% من أرض فلسطين - وهي النسبة التي أعطاها من لا يملك لمن لا يستحق.
ورغم ذلك فلم تكن تلك المساحة قد استولى عليها الصهاينة من الفلسطينيين أصحاب الأرض ولكن معظم هذه الأراضي خصصتها حكومة الإحتلال البريطاني بشكل مباشر لليهود باعتبارها أراضي دولة خاضعة للحكم البريطاني أو عن طريق ملاك اقطاعيين كبار غير فلسطينيين كانوا يقيمون في الخارج..
ومُنعوا عمليًا ورسميًا من الدخول إلى هذه المنطقة لاستثمار أرضهم فما كان لهم إلا تركها واستولى عليها الاحتلال البريطاني ومن خلالها آلت تلك المساحات لليهود حتى انه في كثير من الوثائق والمراجع التاريخية بلغت الأراضي الممنوحة لليهود بشكل بالأمر المباشر وبدون مقابل حوالي 300 ألف كم بالإضافة إلى 200 ألف كم أخرى بمقابل رمزي.
فقام أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين بين عامي (1920-1925) وهو يهودي صهيوني بمنح 175 ألف كم من أخصب أراضي الدولة على الساحل بين حيفا وقيسارية لليهود وتكررت عطاياه من الأراضي الساحلية وفي النقب وعلى ساحل البحر الميت.
ولكي يأخذ كل ذي حق حقه فهناك نسبة بالفعل حصل عليها اليهود من عرب فلسطين خلال الاحتلال البريطاني ومساحتها حوالي 260 ألف كم أي أقل من 1% من أرض فلسطين وقد حصل اليهود عليها بسبب الظروف القاسية التي فرضتها حكومة الاستعمار البريطاني على الفلاحين الفلسطينيين ونتيجة قيام البريطانيين بنزع الملكية العربية لصالح اليهود.
وحتى نكون منصفين فلا يمكننا وصف أبناء شعب بالكامل بالمثالية والتضحية بكل غالي ونفيس مقابل الحفاظ على أرضه ولكن كان هناك بالفعل فئة من ضعاف النفوس ممن أغراهم المال ولكن قبل أن نوصم شعب بالكامل بأنه باع قضيته وأرضه فلنرجع بالتاريخ ونرى كيف تم التعامل مع هؤلاء.. كانت فئة منبوذة تعرض الكثير منهم للمقاطعة أو حتى التصفية والاغتيال خاصة أثناء الثورة العربية الكبرى في فلسطين بين عامي 1936-1939.
بالإضافة ما قام به المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين في الثلاثينيات من القرن العشرين بأن أصدروا في 5 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، واعتبار البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين خارجين من زمرة المسلمين وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم.
كل ما ورد مسبقًا جاء وفق عدد من الوثائق والخرائط المساحية للأراضي الفلسطينية خلال فترات وحقب زمنية مختلفة بالإضافة إلى ما تم نشره من تقارير ودراسات كتوثيق لنضال الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه الذي لم ولن يكن يومًا تخلى عنها.