السلطة الأبوية واحتواء المواطن المستقر!
السلطة الأبوية مصطلح ظهر في كتابات المفكر العربي هشام شرابي، وهو مؤرخ فلسطيني ولد في يافا عام 1927، وتوفى في بيروت عام 2005، ودرس في مدرسة الفرندز الابتدائية في رام الله، وأكمل دراسته في الانترناشونال كولدج في بيروت، وتخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1947..
هاجر في نفس العام إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث التحق بجامعة شيكاغو وحصل منها على الدكتوراه عام 1953، وعمل أستاذًا لتاريخ الفكر الأوروبي الحديث في جامعة جورج تاون وكان من أبرز تلاميذه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون..
وورد مصطلح السلطة الأبوية في كتابه الشهير النظام الأبوي ومشكلة تخلف المجتمع العربي، ويقصد هشام شرابي بالنظام الأبوي تلك الهيمنة الذكورية في المجتمعات التقليدية، حيث يشير إلى الهيمنة المطلقة للأب في صورته الاجتماعية على مستوى العائلة، وفي صورته السياسية ممثلًا للحاكم، أي أنه في المجال الذي تسود فيه القوة على الحجة، والسلطة الأبوية هي سلطة مطلقة لا تقبل النقاش أو الحوار أو الجدل أو الخلاف في الرأي.
السلطة الأبوية والعبودية الطوعية
هذا ما يتعلق بمصطلح السلطة الأبوية أما مصطلح المواطن المستقر فقد ظهر في كتابات الفيلسوف والمحامي والقاضي والكاتب الفرنسي "إتيان دي لابويسيه " منذ ما يقرب من خمسة قرون، وهو مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وأول من أوجد النظرية الفوضوية..
ولد لابويسيه في عام 1530 وتوفى في عام 1563 عن عمر لم يتجاوز 33 عاما، لأسرة أرستقراطية وكان والده من رجال الكنيسة المهتمين باللاهوت والأدب، وعلى الرغم من دراسة لابويسيه للقانون إلا أنه كان مولعًا بالشعر والأدب، لكن تظل مقالة في العبودية الطوعية من أهم أعماله إن لم تكن الوحيدة التي اشتهر بها ليس خلال حياته القصيرة لكن بعد وفاته.
وفى مقالة العبودية الطوعية يهاجم لابويسيه النظام الملكي المطلق ويصفه بالطغيان ويدعو لمكافحة الديكتاتورية، وفي حديثه عن العبودية الطوعية يؤكد أن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاها لهم، فعندما يتم التخلي عن الحرية مرة واحدة من قبل الشعب، ويبقى متخلى عنها حيث يفضل الشعب الرق على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع، وبالتالي يربط لابويسيه الطاعة والهيمنة معًا..
وهي العلاقة التي كونت مع مرور الوقت النظرية الفوضوية، والتي تدعو لإيجاد حلول للتخلص من الهيمنة والانصياع ورفض دعم الطاغية، وبذلك أصبح لابويسيه أحد أقدم دعاة العصيان المدني والمقاومة بلا عنف، وهي ما نتج عنها ذلك الشعب الفرنسي الذي يرفض الهيمنة والانصياع للحاكم مهما تحققت له من سبل الرفاهية، فهو مواطن يطمح دائما إلى مزيد من الحرية، ولديه من الوعي ما يمكنه من ممارسة العصيان المدني والمقاومة بالعديد من الطرق السلمية.
فالعبودية الطوعية تنطبق على المواطن في المجتمعات التقليدية التي وصفها هشام شرابي بالمجتمعات الأبوية التي تسودها السلطة المطلقة، ويظهر فيها ما يصفه لابويسيه بالمواطن المستقر، وهذا المواطن المستقر لا يشتبك مع واقعه، وغير قادر على النقد، ولا يهتم بالشأن العام، ولا يتدخل في الأمور السياسية، وخاضع ومنصاع طوال الوقت لهيمنة السلطة الحاكمة، وغير قادر على المعارضة أو المقاومة.
وفى عالمنا المعاصر يعيش المواطن المستقر في عالم خاص به، وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء هي: الدين، ولقمة العيش، وكرة القدم، والدين عند المواطن المستقر لا علاقة له بالحق، إنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاء للشكل.
ولقمة العيش تعني أنه يعمل فقط من أجل تربية أطفاله والحصول على ضروريات الحياة لهم حتى يكبروا، يزوج البنات ويشغل الأولاد، ويكون بذلك قد أدى مهمته في الحياة. أما كرة القدم فيجد فيها تعويضًا عن أشياء حرم منها في حياته اليومية، فهي تنسيه همومه اليومية والقهر والظلم والاستبداد.
وإذا كانت السلطة الأبوية ترى أنها دائما على حق وأنها تعمل من أجل مصلحة ومستقبل المواطن المستقر، كما يفعل صديقي دائم الشكوى والذي يحرم أبنائه من ضروريات الحياة، في الوقت الذي يفاجئنا بشراء شقق سكنية فاخرة في مدينته وفي المدن الساحلية، هذا بخلاف مزرعة كبيرة، وعندما تسأله يقول لك أنه يفعل ذلك من أجل الأبناء ومستقبلهم..
وبالطبع الأبناء يطالبون بضروريات الحياة اليوم وهنا يكمن الخلاف، لذلك يجب على السلطة الأبوية أن تقوم باحتواء المواطن المستقر، عبر دعمها الكامل لمتطلبات الحياة اليومية للغالبية العظمى من المواطنين المستقرين، ولتكن هذه المتطلبات هي السلع الرئيسية من الفول والعدس والدقيق والأرز والسكر والزيت، حتى نحافظ على استقرارهم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.