في معية الله
لما كان في الغار يوم الهجرة، وقف المشركون على شفير الغار حتى قال أبو بكر -رضي الله عنه-: “لو أن أحدهم نظَر تحت قدميه لأبصَرَنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما ظنُّكَ يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما وفي ذلك نزل قول الرب -جل جلاله-: ”إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا فكل الناس في معية الله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يعني في علمه وإحاطته جل وعلا وهو فوق العرش وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ”.
وقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}، بمعني أنه مُشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه، وفي مذهب مالك: "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه". وقال في كتابه المفرد في السنة: "وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه".
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} وقال سبحانه: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} يُنجِّينا من كل كرب وبلاء، ومشقة وعناء، لا تحزن إن الله معنا بحفظه ورعايته، وقوته وجبروته، وكفايته وعنايته.
الحزن ومعية الله
وهكذا فإن حقيقة الحزن ألَّا يكون المرء في معية الله، فيبقى وحيدًا يكابد أحزانه، فاستشعار معية الله يورث السكينة والطمأنينة، وإذا استشعَر المرءُ بأنَّه في معيةِ اللهِ وفي حِفظِه ورعايتِه أحبَّه وأطاعَه، وتذكَّر أن الله -تعالى- مُطَّلِع عليه، وأنَّه لا تَخفَى عليه خافيةٌ، فيَحمِلُه ذلك على مراقبته وخشيته والحياء منه، والخوف من معصيته.
وبعد هذا البيان عن معية الله من خلال آيات القرآن يتبين لنا أنها إما عامة لجميع الخلق، وهي معية علم، وسمع، وبصر، وإحاطة، وقدرة، وغلبة، وهو مع ذلك بذاته فوق عرشه. وإما خاصة، وهي معيته مع خواص خلقه بالنصرة، واللطف، والتأييد. وأمَّا المعية الخاصَّة؛ فهي معيته -تعالى- لرسله وأنبيائه والصالحين من عباده، بالنصر والتأييد، والمحبة والتوفيق، والهداية والإرشاد، والحفظ والرعاية، والتسديد والإعانة..
فموسى وهارون -عليهما السلام- لَمَّا أمرَهما اللهُ -تعالى- بدعوة فرعون؛ (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، ولَمَّا حاصَر فرعونُ وجنودُه موسى -عليه السلام- وقومَه ظنَّ أصحابُ موسى -عليه السلام- أن السُّبُلَ قد انقطعت بهم، فقالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال موسى بكل صدق ويقين، وحُسن ظنٍّ برب العالَمين: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) ومن كان الله معه كان معه النصر والتأييد، والقوة والتسديد..
وقال سبحانه لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) أي: أنت بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا، ونحن نرعاك، ونحوطك ونحرسك، فأنت بأعيننا، فكان -صلى الله عليه وسلم- مستشعِرًا معيةَ الله له، وحفظه ونصره، وعنايته ورعايته.
ومن كان الله معه فلا يغلبه أحد ولا يؤثر فيه شيء، فهو يتصل بمصدر القوة، وهي قوة الله الغالب على أمره القاهر فوق عباده. ولا يشعر صاحب المعية بوحشة لأنه معه ربه يؤنسه ويثبته ويقويه. وكلما عظمت الخطوب وتزايدت الكروب وألمت بنا الفتن وحلت علينا النقم، فلا ملجأ إلا الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)..
فما أحوجنا اليوم إلى اللجوء إليه سبحانه، التماسا لمدده وعونه، وتعلقا به، وتوكلًا عليه، ويقينًا في نصره، ورضاء بقضائه، وطمعًا في ثوابه، وخوفًا من عقابه، ولن يتحصل ذلك إلا بالتقوى والاستشعار الدائم لمعية المولى سبحانه وتعالى لنا، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).