سلام يا بلد الكلام
تذكرت وأنا جالس وحدي في انتظار مدفع الإفطار، لحظات الطفولة والشباب، دائما تراودني تلك الذكريات وخصوصا بعدما وصلت لسن الأربعين، ووجدت أن رأسي مازالت تحوي ذكريات كثيرة جدا، ولكن أكثر ذكري تلك التي مرت بي عندما كنت صغيرا آخذ حقيبة بلاستيك وأذهب إلى " كشك العيش" في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات لنقف في طابور طويل ننتظر وجبة الخبز كل ثلاث ساعات..
كنت أذهب قبل الموعد بساعة كاملة وأقف في الطابور أتحدث مع الواقفين، تذكرت حواراتنا البسيطة التي تبدأ بالحكاية عن أمور تقترب من الأسرار الشخصية وانتهاءً بالسياسة وتنمو بيننا حالة حب ولكن بمجرد أن يهل الخبز علينا تجد عقد الطابور وقد انفرط وتحول الطابور والدور الذي يحافظ عليه الجميع إلى مشاجرة وضرب وزق وشد وجذب والشاطر من يستطيع أن يصل إلى الخبز.
هذا المشهد العفوي الذي تجده الآن في خضم الطوابير التي أصبحت سمة في مصر، ابتداءً من طابور المترو والبنزين وانتهاءً بطابور واقف أمام السجل المدني يجعلنا نحاول تفسير الأمر، فنحن شعب كثير الكلام وفقط ولا يفعل شيئا.. حالة غضب على وجهك عزيزي القارئ.. ولكن هذه الحقيقة، ودعونا نفند الأمر ففي الستينيات كان المشروع القومي الناصري مرتبط بالعمل، وجف ريق جمال عبد الناصر وهو يطلب من الشعب العمل، وبالعافية استطاعت ثورة يوليو أن تنشئ 1855 مصنع صناعات ثقيلة وتنشئ السد العالي وغيرها، بعد ذلك في السبعينيات ارتبط العمل بالانفتاح الاقتصادي والذي حول العمل الاقتصادي إلى السمسرة والاستيراد دون تصدير والشطارة في كسب المال السريع بما يسمي دورة رأس المال السريعة، وغني الشعب مع أنور السادات "أمجاده كتبها بحياته".
وفي الثمانينات والتسعينيات أصبح الاستثمار في الشواطئ "بورتوهات" أو مصانع المستهلكات "بنبوني وحلويات وطعام" وبدأت الخصخصة واستعرت البورصة بالمغامرين، ثم ظهرت شركات المحمول التي جمع أصحابها ثروات من الكلام، واكتشفنا أننا بالفعل بلد الكلام، مليارات تنفق كل عام على المحمول، حتي الحكومات المتعاقبة كانت ودن من طين وأخري من عجين نغني ليها "إديها كمان حرية" ولكن المعتقلات مفتوحة وأمن الدولة يكبل معاصم الناس.
وفي الظروف الراهنة، اقتصاد منهار، حالة سياسية شديدة السوء، تدخلات خارجية، حدود مستباحة، وكل ما نراه كلام وكلام فقط، وليس هناك فعل، اعتصام في رابعة والنهضة وعلي المنصات كلام، وفي الإعلام وبرامج التوك شو كلام، وتصريحات الحكومة كلام، وفي التحرير بعض الاعتصام وبعض الغناء والكثير من الكلام، وعلي الفيس بوك كلام، حتي أنا أكتب كلاما فقط.
تذكروا معي فيلم النوم في العسل للرائع وحيد حامد عندما أصاب كل رجال القاهرة حالة ضعف جنسي وكان يقصد بها حالة الضعف في التعبير عن الرأي من خلال الفعل، لقد أصبح الجميع عجزة وماتت كل الأشياء، وما زال الكلام والكلام..
أعتقد هذا حالنا الآن الكلام والنوم في العسل..