زهرات البيت النبوي في مصر (10) السيدة أم كلثوم
يحظى اسم أم كلثوم (ويعني في اللغة الفتاة متوردة الخد) بمكانة خاصة وتقدير معتبر في التاريخ الإسلامي بصفة عامة وتاريخ آل البيت بصفة خاصة، وذلك بعد أن اختاره النبي ليُطلقه على ابنته الثالثة، التي رزقها الله بها من السيدة خديجة بعد شقيقتيها زينب ورُقيّة.
ولدت السيدة أم كلثوم قبل البعثة بست سنوات، وتزوجت من ابن عمها عُتيبة بن أبي لهب، فلما بُعث النبي وجاهر بدعوته طلقها عُتيبة، وهاجرت مع أبيها إلى المدينة المنورة، ولما ماتت شقيقتها رُقيّة زوجة عثمان بن عفان يوم معركة بدر، زوجه النبي من أم كلثوم، وعاشت مع ذي النورين نحو سبع سنوات ولم تنجب منه، وسرعان ما رحلت وعمرها لم يتجاوز 27 عاما، وبكى النبي لفراقها وكفّنها في عباءته ودفنها في البقيع.
وتيمنا بأم كلثوم بنت النبي تعددت "الكلثومات" في أهل البيت، ولعل أشهرهن أم كلثوم بنت الإمام على عليه السلام، والتي كان عمر بن الخطاب أول أزواجها، وأنجبت له زيد ورُقيّة، ولما استشهد عمر تزوجت من ثلاثة من أبناء عمها جعفر بن أبي طالب، هم على الترتيب: عون ومحمد وعبدالله، استشهدوا جميعا، فكانت أرملة الشهداء.
ويمكننا أن نشير كذلك إلى أم كلثوم بنت الفضل بن العباس عم النبي، وكانت من زوجات الإمام الحسن بن علي. ورزق الله مصر بواحدة من "كلثومات" آل بيت النبي، وهي أم كلثوم بنت القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين، أي أنها من الفرع الحسيني في آل البيت، ومن فرط عشق المصريين لها فإنهم دللوها فاشتهرت بينهم باسم "السيدة كلثم"، وأحيانا "كلثوم".
ولم تتشرف أرض مصر بالسيدة "كلثم" وحدها، بل كان الشرف مضاعفا بوجود أسرتها: والدها ووالدتها وأخويها وأختها، ومشاهدهم فى تلك البقعة المباركة التى تقع بين مسجدي الإمامين الشافعي والليث بن سعد.
والراجح في كتب المؤرخين الثقات أن هذه الأسرة الحسيبة الشريفة جاءت إلى مصر في زمن حاكمها أحمد بن طولون (مؤسس الدولة الطولونية وحاكمها الأول بين 868 / 884 ميلادية)، فقد سمع ابن طولون عن كرامات وبركات يحيى بن القاسم، الذي اشتهر بلقب "الشبيه" لشدة شبهه بجده النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه يستقدمه إلى مصر.
وقد ذكره السيد محمد زكى الدين إبراهيم في كتابه مراقد أهل البيت في القاهرة، هو: السيد يحيى بن القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين، وقد لقب بالشبيه بالنبي؛ لأنه كان يُشْبِهُ جده المصطفى ﷺ صورة وسمتًا، وجلالًا ووقارًا وكرمًا وشجاعة.
وقد اشتهر بالعلم والبركة، فاستقدمه إلى مصر أحمد بن طولون، تطييبًا لقلوب المصريين؛ لما هو عليه من الخير، ولما هو معروف عن المصريين من صِدْقِ حُبِّ أهل البيت النبوى، وصفاء الولاء لهم، وقد كان يوم دخوله مصر ومن معه من الأشراف عيدًا من أكبر الأعياد. ولَمَّا تُوُفِّىَ دفن بمشهده المعروف قريبًا من مسجد الإمام الليث بن سعد، وقد دفن معه أخوه عبد الله بن القاسم وطائفة من الأشراف.
وقد ذكره السخاوى فى كتابه تحفة الأحباب وبغية الطلاب: هو يحيى بن القاسم الطيب الموصول إلى الحسين بن على.. قيل كان شبيها برسول الله ﷺ وكان له خاتم بين كتفيه كخاتم النبوة وكان الناس إذا شاهدوه أكثروا من الصلاة على رسول الله ﷺ ".
ويقول المؤرخون عن سبب قدومه إلى مصر: أراد ابن طولون أن يكون لمصر شرف التطلع إليه فبادر بإرسال وفد محمل بالهدايا والتحف إلى الحجاز حيث يقيم يحيى وأسرته مع رجاء تشريفه وأسرته بزيارة مصر، وقبل يحيى الدعوة ولـبى الرجـاء..
ولما سمع أهل مصر بقدومه خرجوا يلتقونه، وكان يوم قدومه يومًا مشهودًا، وقد جاء معه والده السيد الشريف الإمام العالم القاسم الطيب بن محمد، وكان من أحفظ الناس لحديث سيدنا رسول الله، كما اشتهر ببره لوالدته، وسئل مرة: كيف تكون أبّر الناس بأمك ولم نراك تأكل معها فى طبق واحد؟، فرد: أخاف أن تسبق يدي إلى ما تسبق إليها عينها فأكون قد عققتها، وكذلك جاء برفقة الشبيه والدته وأختيه.
وعاشت تلك الأسرة الطاهرة فى مصر محاطة بمحبة المصريين، واختارتها وطنا وقبرا، ومشهدهم معروف ومعلوم، ومشهور بإجابة الدعاء، وكانت وفاة يحيى الشبيه يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة 261هـ، ودفن بجواره أخيه عبدالله بن القاسم الطيب، وكذلك أمهما، وكانت من العابدات الزاهدات ومذكورة في طبقات الأشراف، ومعهم السيد يحيى بن الحسن الأنور شقيق السيدة نفيسة رضى الله عنها.
ومن كرامات سيدى يحيى الشبيه، ما شاع أنه: «كان يُرى على قبره نور»، وأن أحد زواره دخل إلى ضريحه فلم يُحسن الأدب، فسمع من قبره صوتا يقول: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا».
معلومات شحيحة
إلى تلك الأسرة الشريفة الكريمة من نسل سيدنا الحسين تنتسب السيدة “كلثم”، ورغم ما تتمتع به من مكانة وفضل إلا أن المعلومات عنها شحيحة، لا تروي ظمأ المحبين وشغفهم بسيرة تلك السيدة التي يقصدون مقامها للتبرك والدعاء.
وحتى المعلومات الموثوقة المُجمع على صحتها تجدها مقتضبة، مجرد إشارات عابرة لا تفصيل فيها ولا توضيح، من قبيل أنها تزوجت فى مصر وأنجبت عددا من الأولاد، أما زوجها فهو من أبناء عمومتها، السيد موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم، وأما أولادها فلا يُعرف عددهم ولا أسماؤهم، والإشارة الوحيدة أن ابنها الأكبر اسمه جعفر وبه تُكنى، فتجد من يسميها أم جعفر.
كل أولادها ماتوا في حياتها، فلم يخلف أحد منهم ذرية، ويقال إن بعض أولادها مدفون معها في ضريحها.. وكانت من الزاهدات العابدات، الصالحات الراجحات، وكانت صوامة قوامة، لا تلتفت لأهل الدنيا، وقبرها يستجاب فيه الدعاء.، وأنها حجت ثلاثين حجة إلى بيت الله الحرام سيرا على الأقدام، وكان لها قدم صدق حتى أطلقوا عليها سيدة العابدات.
والمدهش أن المؤرخين الذين كتبوا عن السيدة كلثم ساقوا مبررا عجيبا عن الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاقتضاب في تناول سيرتها بذلك الإيجاز الشديد والمخل، فقالوا "إن شهرتها تغني عن الإطناب في مناقبها"، بما يعني أنها حازت شهرة ومكانة يعرفها ويقدرها أهل زمانها بما يغنيهم عن ترديدها أو تسجيلها في كتبهم!
وربما كان مشهدها هو الدليل الأهم الباقي من سيرتها وأثرها، وسنحاول هنا أن نلخص تاريخه اعتمادا على مرجعين مهمين هما: الجزء الثاني من موسوعة مساجد مصر وأولياؤها الصالحون للدكتورة سعاد ماهر، والتراث المعماري الفاطمي والأيوبي في مصر" للدكتور محمود درويش..
وفي نقاط موجزة عن مشهد السيدة كلثم نقول لا يوجد تاريخ محدد لوفاة السيدة كلثم، والراجح أنها انتقلت إلى رحاب الله بعد سنوات غير بعيدة من رحيل والدها القاسم الطيب في العام 261 هجرية، ودُفنت في مقبرة بسيطة بجوار أسرتها.
أما ضريحها القائم فقد أنُشئ في زمن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله في سنة 516 هجرية على أرجح الأقوال، حيث كلف الخليفة وزيره المأمون البطائحي بتجديد وترميم المشاهد التسعة الواقعة بين جبل المقطم والقرافة، وأولها مشهد السيدة زينب وآخرها مشهد السيدة كلثم، على أن يوضع على كل مشهد منها لوحا من الرخام عليه اسم صاحب الضريح وتاريخ تجديده.