زهرات البيت النبوي في مصر (4).. نفيسة العلم والمعرفة
قال الحافظ الذهبي في ترجمته لها: والدعاء مستجاب عند قبرها. اهـ (سير أعلام النبلاء). يعتبر الكثير من المؤرخين والفقهاء أن السيدة نفيسة من مجددي القرن الثاني الهجري، فقد توفيت عام 208 هجريا، وهي مولودة في 145هـ، أي قبل منتصف القرن الثاني للهجرة بخمس سنوات، وقد كان المسلمون وقتئذٍ أقوى أمم العالم، وإن كان قد أثر فيهم ما أصاب الإسلام من نكسة، مصدرها تحول نظام الحكم في عصر بني أمية من خلافة راشدة إلى ملك، يتوارثه الأبناء عن الآباء.
ولدت السيدة نفيسة بمكة عام 145 هجريا، وأبوها هو الإمام حسن الأنوار ابن الإمام زيد الأبلج، ابن الإمام الحسن، ابن الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهم.
وكانت السيدة نفيسة قد أدركت الأحداث التي عاشها آل البيت في نهاية عصر الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية، كما أدركت عن قرب فترة الود والصفاء الانتقالية التي قامت بين العلويين من آل البيت وبني عمومتهم من العباسيين، وأيضا تنكرأبناء العم من العباسيين لأبناء علي..
بعد أن صارت لهم قيادة الخلافة الإسلامية، وأصبحوا يديرون أمور الدولة بدلا من الأمويين الذين أفلت شمس دولتهم، بل إن الخليفة العباسي تحول إلى خصم لأبناء العم من العلويين.
في هذا المناخ السياسي والاجتماعي المضطرب نشأت السيدة نفيسة، والتي فتحت عينيها على مظاهر التقى والإيمان.. وكانت ربيبة مدرسة أبيها الإمام حسن الأنوار الذي تلقت أمور دينها ودنياها منه، وكانت من السابقات اللائي شققن طريقهن إلى التصوف بين النساء.
نفيسة العلم والمعرفة
وكانت قد انتقلت السيدة نفيسة من مكة إلى المدينة المنورة وهي في العشرين من عمرها، وكان الإمام مالك بن أنس يتصدر مجالس العلم، التي تجمع صفوة العلماء، ومن بينهم السيدة نفيسة، التي تتلقى ما لا تعرفه طيلة أربعة عشر عاما قضتها في رحاب هذا العالم الجليل حتى توفي، وتقدم لها ابن عمها إسحاق بن الإمام جعفر الصادق، وأصبحت دارهما بالمدينة المنورة، ثم في مصر بعد ذلك، ملتقى للعلماء وكعبة لأعلام عصرها ممن عرفوا قدرها باعتبارها نفيسة العلم والمعرفة.
ثم انتقلت هي وزوجها إلى مصر، ليلحق بهما والدها الإمام حسن الأنوار، ولعلها اختارت هذا البلد الأمين طلبا للهدوء والاستقرار بعيدا عن الخلافات والصراعات، عاشوا فيه زمانا فوجدت في مصر وشعبها ما لم تجده في غيرها من البلدان.
وكان المصريون قد أحبوا هذه السيدة حتى قبل أن يروها لما سمعوه عن علمها وفضلها وتقاها، فلما اختارت مصر مستقرا، وشعبها أهلا، استُقبلت بكل حفاوة وتكريم منهم، وحين ترامى للمصريين نبأ عزمها على الرحيل، فزعوا إلى الوالي، فلم يتوانَ عن التوجه إليها طالبا منها البقاء بمصر، نزولا على رغبة أهلها..
فقالت له: إنى جئت مصر بنية الإقامة الدائمة حتى الموت، وأن أدفن في تربتها، وإنى امرأة ضعيفة، وأرى الناس قد تكاثروا عليَّ تكاثرا فاق طاقتي، وشغلني عن زادي لمعادي ومكاني هذا صغير قد ضاق بالجموع الوافدة، فقال لها الوالي: إنى سأزيل جميع ما تشكين منه لتبقي في مصر وسأهيئ لك الأمر على الوجه الذي ترضين به.
طاب لها المقام بمصر
وقد صدق وفعل، ومن جانبها خصصت يومين في الأسبوع تلتقي فيهما بالوافدين عليها وطاب لها المقام بمصر. ولما وفد الإمام الشافعي إلى مصر عام 198 هجريا توثقت صلته بالسيدة نفيسة بنت الحسن، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، كان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء.
وأوصى الإمام الشافعي أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204 هجريا، وصلّت عليه إنفاذا لوصيته.
ومما يُروى، أنها شهدت في آخر حياتها ظلم أحد حكام مصر آنئذ، وبلغها من ظلمه وجوره، حيث جاء أهل مصر متوسلين أن تتشفع لهم عنده حتى يرفع عنهم مظالمه.. فسألتهم أوقات وأماكن خروجه فعرفوها.. فما كان منها إلا أن استوقفت موكبه ونادته باسمه مجردا فاستجاب لها مترجلا عن جواده، واتجه إليها وهو يرتجف..
فقالت له: «ملكتم فأسرتم، فكان منكم الجور والعسف، وقطع الأرزاق، وقد علمتم سهام الأسمار نافذة غير مخطئة لا سيما الصادر منها من قلوب أوجعتموها وأكباد أذقتموها قسوة الجوع، ومحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم فاعملوا ما شئتم فنحن صابرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»، وهنا ارتعد الحاكم الظالم وأقبل على السيدة نفيسة يترضاها ويعدها بأن يصلح كل شيء.
وحين دب الوهن في أعضائها تخيرت لنفسها مرقدها في المكان الذي كانت فيه دارها، وفي نفس الحجرة التي عاشت فيها بقية حياتها بمصر، وحفرت قبرها بنفسها ونزلت إليه وصلت فيه مرات حتى فاضت روحها، ويقال إنها ختمت فيه القرآن الكريم نحو 300 مرة.
كانت لا تفطر إلا في العيدين
وفي رجب 208 هجريا أصابها المرض، واشتد عليها حتى توفيت في شهر رمضان، فبكاها أهل مصر وحزنوا لموتها حزنا شديدا، كانت تخدم السيدة نفيسة السيدة زينب بنت أخيها، فقالت إن عمتها كانت لا تفطر إلا في العيدين، وكانت تقوم الليل، وكانت حافظة لكتاب الله وتعلم تفسيره جيدًا، فكانت تقول لها زينب: أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت: كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟.
ويُروى أنه بعد وفاتها، أراد زوجها أن يحملها إلى المدينة المنورة كي يدفنها بالبقيع، فعرف المصريون بذلك فهرعوا إلى الوالي عبد الله بن السري بن الحكم، واستجاروا به عند زوجها ليرده عما أراد فأبى، فجمعوا له مالا وفيرا وسألوه أن يدفنها عندهم فأبى أيضا، فباتوا منه في ألم عظيم، لكنهم عند الصباح في اليوم التالي وجدوه مستجيبا لرغبتهم، فلما سألوه عن السبب قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وآله، وسلم وهو يقول لي رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم.
ويتردد أن أول من بنى مشهدها المهيب، هو عبيد الله بن السرى بن الحكم أمير مصر، وفي سنة 482 هجريا أمر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بتجديد الضريح، ثم أمر الخليفة الحافظ لدين الله بعدها بتجديد القبة، وفي سنة 714 هجريا، أمر الناصر محمد بن قلاوون بإنشاء مسجد بجوار الضريح، ثم تم تجديد الضريح والمسجد معا بعد ذلك، وفي سنة 1173 هجريا، نشب حريق بالمسجد، وأتلف قسما كبيرا منه، فأمر الخديوي عباس الثاني بإعادة بنائه.. ومؤخرا، افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي، مسجد السيدة نفيسة بعد تطويره.