ما حكم نيابة المرأة في العمرة عن الرجل المريض؟ الإفتاء تجيب
حكم نيابة المرأة في العمرة عن الرجل المريض، ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول إن هناك رجلًا عنده مالٌ يكفي للعُمرة، لكنه مريضٌ عاجزٌ، وليس لديه قدرةٌ بدنيَّة على تَحَمُّل السفر ومَشقَّته ومجهود الطواف والسعي، فهل يجوز له أن يَستنيبَ أختَه في العُمرة بدلًا عنه؟
فضل العمرة
ومن جانبها أوضحت دار الإفتاء أن العُمرة مِن أفضلِ العباداتِ وأنفعِ القُرُباتِ التي يَتقرب بها العبدُ إلى الله تعالى، وقَرَن اللهُ ذِكرَها في كتابه الكريم بالحج الذي هو ركنٌ مِن أركان الإسلام، وأَمْرَ بإتْمَامِها؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196].
وقد حَثَّ الشرعُ الشريف على أدائها، وجَعَلها سببًا مِن أسباب مغفرة الذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» متفق عليه.
بيان مفهوم الإنابة
الإنابة: مشتقة من مادة (نوب)، ونَابَ عنِّي فلانٌ يَنُوبُ نَوْبًا ومَنَابًا؛ أي: قام مَقامي، وناب عني في هذا الأمر نيابةً إذا قام مَقامك؛ كما في "لسان العرب" لجمال الدين ابن منظور (1/ 774، ط. دار صادر).
مشروعية النيابة في الحج والعُمرة
مشروعية النيابة في الحج والعُمرة ثابتةٌ في السُّنَّة المشرَّفة بما ورد عن أبي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ رضي الله عنه أنَّه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» أخرجه الأئمة: ابن حبان في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والترمذي وابن ماجه والنسائي والبيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".
ودِلالة الحديث واضحةٌ في جواز النيابة ومشروعيتها في الحج والعُمرة على السواء مِن حيثُ الأصلُ؛ كما في "مرقاة المفاتيح" للملا علي القَارِي (5/ 1751، ط. دار الفكر)، و"شرح المصابيح" لأمين الدين ابن المَلَك الكَرْمَانِي (3/ 247، ط. إدارة الثقافة الإسلامية).
والمريض الذي لا يُرجَى بُرؤه لِكِبَرٍ أو زَمَانَةٍ، العاجزُ عن أداء العُمرة بنفسه، إذا وَجَد مَن يَنُوب عنه، فالمختار للفتوى: جواز النيابة في أداء العُمرة عنه؛ لكونه فاقدًا الاستطاعةَ بنَفْسه لكنه مستطيعٌ بغيره، فالِاستطاعة كما تكُونُ بالنَّفْسِ تكونُ ببذْلِ المالِ وطاعةِ الرِّجَالِ؛ ولهذا يُقَالُ لمَنْ لا يُحْسِنُ البِناءَ: "إنَّك مُسْتَطِيعٌ بِناءَ دارِكَ"، ولأنَّ العُمرة عبادةٌ مَثَلُها مَثَلُ الحجِّ تَجري فيها النيابةُ عند العَجْز لا مُطلقًا، توسطًا بين العبادة الماليَّة المحضة والعبادة البَدَنيَّة المحضة، وهو مذهب الحنفية؛ كما في "فتح القدير" لكمال الدين ابن الهُمَام (2/ 416، ط. دار الفكر)، والشافعية؛ كما في "المجموع" للإمام النووي (7/ 94، ط. دار الفكر)، والحنابلة؛ كما في "شرح منتهى الإرادات" لأبي السعادات البُهُوتِيِّ (1/ 519، ط. عالم الكتب).
الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في العمرة
لا فَرْق في جواز النيابة عن المريض في العُمرة بين أن يَنُوب عنه في ذلك رجلٌ أو امرأةٌ، بل قد جاءت السُّنَّة المشرَّفة بمشروعية نيابة المرأة عن الرجل في أداء النُّسُك نصًّا:
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قال: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. متفق عليه.
فلَولَا أنَّ حجَّها يقع عن أبيها العاجز عن أداء الفريضة بنفسه لَمَا أَمَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحجِّ عنه.
قال الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (9/ 98، ط. دار إحياء التراث العربي): [هذا الحديث فيه فوائد، منها.. جواز النيابة في الحج عن العاجز الْمَأْيُوس منه بِهَرَمٍ أو زَمَانَةٍ أو مَوْتٍ، ومنها جواز حج المرأة عن الرجل] اهـ.
والحديث وإن كان في نيابة المرأة عن الرجل في الحج، إلا أن الحُكم فيه يَنطبق على العُمرة أيضًا، بل ومِن بابٍ أَوْلَى؛ لأنَّ العُمرةَ تتشابه في جميع أركانها مع الحج، إلا أنَّ الحج يَزيد عليها برُكنِيَّة الوقوف بعرفة، ولهذا سُمِّيَت العُمرة بالحجِّ الأصغر على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ كما في "فتح الباري" للحافظ ابن حَجَر العَسْقَلَانِي (8/ 321، ط. دار المعرفة).
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء مِن الحنفية -وإن كَرِهُوهُ تنزيهًا، قياسًا على ما نصُّوا عليه في الحجِّ مِن مخالفة المرأة للرجلِ في بعضِ أفعاله، كترك الرَّمَل في الطواف والإسراع في السعي، ورَفْع الصوت بالتَّلْبِيَة، والحَلْق، إذ العِلَّةُ جاريةٌ عليها في حال العُمرة كذلك-، والشافعية، والحنابلة، على تفصيلٍ بينهم في شروط النيابة وضوابطها.
قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 212-213، ط. دار الكتب العلمية) في معرِض كلامه عن الاستنابة في العبادات: [وأما المشتملة على البدن والمال وهي الْحَجُّ، فلا يجوز فيها النِّيابة عند القدرة، ويجوز عند العجز.. فالدَّليل على الجواز: حديث الْخَثْعَمِيَّةِ.. ولولا أنَّ حجَّها يقع عن أبيها لَمَا أمرها بالحج عنه.. وسواء كان رجلًا أو امرأةً، إلا أنه يُكرَهُ إحجاجُ المرأة، لكنه يجوز، أما الجواز فلحديث الخثعمية، وأما الكراهة فلأنه يدخل في حَجِّها ضَرْبُ نُقصان؛ لأن المرأة لا تستوفي سُنَنَ الحج، فإنها لا تَرْمُلُ في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة، ولا تَحْلِقُ] اهـ.
وقال مَجد الدين ابن مَوْدُود المَوْصِلِي الحنفي في "الاختيار لتعليل المختار" (1/ 171، ط. الحلبي): [قال: (ويجوز حجُّ الصَّرُورَةِ والمرأة والعبد)؛ لوجود أفعال الحج والنيَّة عن الآمر كغيرهم.. والأَوْلَى أن يختار رجلًا حرًّا عاقلًا بالغًا قد حجَّ، عالمًا بطريق الحج وأفعاله] اهـ. وَالصَّرُورَةُ: الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 603، ط. دار الفكر): [ولا يخفى أن التعليل يُفيد أنَّ الكراهةَ تنزيهيةٌ؛ لأن مراعاةَ الخلاف مستحبةٌ، فافهم. وعلَّل في "الفتح" الكراهةَ في المرأة بما في "المبسوط" مِن أنَّ حجَّها أَنْقَصُ؛ إذ لا رَمَلَ عليها، ولا سَعْيَ في بطن الوادي، ولا رَفْعَ صوتٍ بالتلبية، ولا حَلْقَ] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 450، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وأما الاستطاعةُ بالغير فالعاجِزُ عن الحجِّ) أو العُمرة ولو قضاءً أو نذرًا أو تطوُّعًا (بالموت أو عن الركوب إلا بمشقةٍ شديدةٍ لِكِبَرٍ أو زَمَانَةٍ يُحَجُّ عنه) لأنه مُستطيع بغيره؛ لأنَّ الاستطاعة كما تكونُ بالنَّفْس تكونُ ببَذْلِ المالِ وطاعةِ الرجالِ؛ ولهذا يُقَالُ لمَنْ لا يُحْسِنُ البِناءَ: "إنَّك مُسْتَطِيعٌ لبِناءِ دَارِكَ"] اهـ.
وقال الإمام الشَّبْرَامَلِّسِي الشافعي في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/ 252، ط. دار الفكر): [لا يشترط فيمن يحُجُّ عن غيره مساواته للمحجُوجِ عنه في الذُّكورة والأُنُوثة، فيكفي حَجُّ المرأة عن الرَّجل كعكسه؛ أخذًا من الحديث] اهـ.
وهذه النصوص وإن وَرَدَت في الاستنابة في الحج، إلا أنها تَنطبق على العُمرة؛ لأنها الحج الأصغر كما سبق البيان.
وقال أبو السعادات البُهُوتِي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 453-454، ط. دار الكتب العلمية): [فإنْ (عَجَز عن السعي إليه) أي: إلى الحج والعُمرة (لكِبَرٍ أو زَمَانَةٍ أو مرضٍ لا يُرجَى بُرْؤُهُ) كالسُّلِّ، (أو ثِقَلٍ لا يَقدر معه يَركب إلا بمشقَّةٍ شديدةٍ، أو كان نِضْوَ الخِلْقَةِ وهو المهْزُولُ لا يقدرُ على الثُّبُوتِ على الراحلة إلا بمشقَّةٍ غير محتملةٍ، ويُسمَّى) العاجزُ عن السعي لزَمانَةٍ ونحوها ممَّن تقدَّم ذكرُهُم (الْمَعْضُوبَ).. (أو أَيِسَت المرأةُ مِن مَحْرَمٍ، لَزِمَه) أي: مَن ذُكِرَ (إنْ وَجَد نائبًا حُرًّا أن يقيم مِن بلده أو مِن الموضِع الَّذي أيْسَرَ منه) إن كان غيرَ بلده (مَن يَحج عنه ويَعتَمِر).. (ولو) كان النائبُ (امرأةً عن رجل، ولا كراهة) في نيابة المرأة عن الرجل؛ للخبر السابق، وكَعَكْسِهِ] اهـ.
حكم نيابة المرأة في العمرة عن الرجل المريض
بناءً على ذلك: فإنَّ نيابة المرأة عن الرجل المريض في العُمرة جائزةٌ شرعًا على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لأن العُمرةَ عبادةٌ تَشتمل على البَدَن والمال، فإذا عَجَز الإنسانُ عن الإتيان بها ببَدَنه، فيجوز له أن يُنيب مَن يقوم بها عنه، من غير اشتراط المساواة بين النائب ومَن ينوب عنه في الذُّكورة والأُنُوثة كما سبق بيانه.
وفي واقعة السؤال: يجوز لهذا الرجل غير القادر على أداء العُمرة بنَفْسه لمَرَضِهِ أن يَستَنِيبَ أختَه في أدائها عنه، ولا حرج في ذلك شرعًا.