رئيس التحرير
عصام كامل

الباشا الأبيض.. عن رعاية الخونة في أكنافنا

كان نهر النيل هو البوابة لغرس بذور استراتيجية السيطرة البريطانية على مصر، بدأت القصة مع رحلات صمويل باشا بيكر الرحالة والضابط الإنجليزي المعروف، الذي بلغ مكانة كبيرة لدى أبناء وأحفاد محمد علي باشا خاصة الخديو إسماعيل الذي قربه وصعده في المناصب داخل الجيش حتى وضعه على رأس قيادة الحملة المصرية لاستكشاف منابع النيل في أوغندا والحبشة عام 1868م والتي انتهت بتأسيس مديرية خط الاستواء المصرية.

 

بيكر خلال رحلته اكتشف بحيرات عظمى في أوغندا، منها ينبع ما نعرفه الآن بالنيل الأبيض وقرر أن يطلق على واحدة منها اسم "فيكتوريا" على اسم الملكة البريطانية الشهيرة وأطلق على الأخري "ألبرت" على اسم زوج الملكة!

و لم يكلف الباشا الأبيض نفسه عناء التفكير للحظة بأن يطلق على إحدى البحيرتين اسم "إسماعيل" لكنه كان يدرك أنه بريطاني عن حق، وولاءه للتاج البريطاني فقط، لا للرجل الذي أغدق عليه العطايا وحمل باسمه رحلة عسكرية جغرافية حساسة وهامة للأمن القومي المصري. 

Advertisements

 

 الأكاديمي النرويجي “ترجى تفيدت” تتبع أوراق السير صامويل بيكر، ضمن رحلته لتوثيق تاريخ نهر النيل في عصر الاستعمار البريطاني، وكشف عن  أفكار  بيكر التي شكلها نحو نهر النيل ومنابعه وعلاقتها بمصر خلال قيادته للحملة، وكشف أن الباشا الأبيض بيكر كتب التقارير ووجه النصائح لصناع السياسة والحرب في بريطانيا بضرورة السيطرة على السودان بأي ثمن لخنق مصر واحتلالها.. 

 

بل كتب الرجل الذي خان ولي نعمته يقول للبريطان:  لقد شرب العرب من تلك الآبار "النيل" لآلاف السنين، فإذا أقيمت قلعة على هذه الآبار أصبح العرب تحت رحمتك، لا مياه، لا عرب، والنيل الأبيض هو حدود البداية لذلك)

 السير لصامويل وايت بيكر ومرافقوه خلال مرورهم بجنوب السودان 1863، المصدر موسوعة Encyclopædia Britannica
 

 ورغم خيانة بيكر، ظلت للرجل مكانته الكبيرة لدى سلالة محمد علي، وربما يراه البعض إلى الآن مستكشفا عظيما، لا خائنا ومستعمرا حقيرا، استغل حفاوة المصريين وسذاجتهم في بيع أمانهم لمستعمر جبان، ولكنه في الحقيقة ومن وجهة نظري كان وطنيا فريدا ومخلصا بحق للتاج البريطاني، ولا عزاء للسذج والغافلين.

ورقة رابحة

 تقارير وإشارات بيكر وغيره من المستكشفين لمنابع النيل، التقطها اللورد كرومر،وبعد دراسات مستفيضة للوضع السياسي والمائي في أعالي النيل، توصل إلى حقيقة واحدة، أن سدا صغيرا بعرض 8 أمتار على بحيرة آلبرت نيانزا كفيل بالتحكم في المياه الواصلة إلى مصر..

 

وهي ورقة استراتيجية رابحة يمكن استخدامها في الوقت الذي يعلو فيه صوت المصريين للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، ومن هنا كانت البداية الحقيقية لمحاولات خنق مصر عن طريق نهر النيل.

 

وقد ورثت الإمبراطورية الأمريكية مفاهيم الإرث الاستعماري لشقيقتها الكبرى بريطانيا مع تغيير نوعي في الأليات، فوضعت نهر النيل صوب عينيها، واعتبرته يد مصر الموجوعة، فأعادت السيناريو البريطاني مع نهر النيل لكن بشكل عملي أكثر من الإنجليز..

سد الحدود

بعد دخول مصر في تحالف مع المعسكر الشرقي، أطلقت واشنطن يد مكتب الاستصلاح الأمريكي  لإجراء مجموعة من الدراسات على النيل الأزرق، الذي أعتقد البريطانيون إنه أكثر جموحا من أن يتم تطويعه، وأهدى المكتب لإثيوبيا أكثر من 30 مشروعا مائيا على النيل الأزرق، لاحتجاز قرابة 70 مليار متر مكعب من مياه النهر، بعد دراسات حقلية بدأت من جانب المكتب بطول النيل الأزرق عام 1958 واستمرت 6 سنوات.

 

وكان من ضمن المشروعات التي أوصى بها مكتب الاستصلاح الأمريكي  سد الحدود المعروف الآن بسد النهضة الإثيوبي العظيم - Grand Ethiopian Renaissance Dam - وفي دراسات مكتب الاستصلاح الأمريكي التي اطلع عليها كثير من أساتذة المياه في مصر، ونقلوا إلينا ما جاء في تلك الدراسات، فإن السعة الكاملة لمشروع سد الحدود، كانت تصل إلى 11 مليار متر مكعب، وهي السعة الممكنة لهذا المشروع، نظرًا لوجود واد بطول 5 كيلو مترات شمال غرب جسد السد، يمنع ارتفاع المياه إلى أكثر من السعة المذكورة.

 

 

 وعند سعي إثيوبيا في عهد الرئيس الراحل ميليس زيناوي لرفع مواصفات سد الحدود بعد الاستقرار على تسميته بسد النهضة تم إقرار مشروع جديد لزيادة سعة الخزان، وهو بناء سد آخر مكمل لإغلاق هذا الوادي بطول 5 كيلو مترات، وارتفاع 50 مترا وهو ما يسمى الآن بسد السرج، لترتفع سعة سد النهضة إلى 74 مليار متر مكعب، وهو رقم له رمزية كبيرة كونه حاصل جمع حصتي مصر والسودان.

الجريدة الرسمية