دعوة للتطبيع
اعتاد الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن فى زياراته إلى القاهرة أن يلتقى بمقر إقامته عددا مختارا من الكتاب والصحفيين، يعرج بهم إلى تفاصيل قد تكون غامضة أو خفية عن صناع القرار الصحفى، ومن عادته أن يكون واضحا وصريحا وليست هناك محاذير فيما نتناول أو نسأل أو نعبر به عن رؤيتنا.
فى تلك المرة دعا الرئيس أبو مازن المصريين إلى زيارة القدس، وتنظيم رحلات مكثفة للمدينة المقدسة من المسلمين والمسيحيين، دعما لعروبة القدس ومساندة لأهلنا فى المدينة المحتلة، ورفض الرئيس أن تستمر المقاطعة إذ إن فيها كل الدعم للكيان الصهيوني.
سألت الرئيس: إننا فى نقابة الصحفيين -على سبيل المثال لا الحصر، كما هو الحال فى كل نقابات مصر وأحزابها- نرفض التطبيع، ونعتبره خيانة للقضية ودعما للكيان الصهيوني، ومن يتبنى دعوتك لا شك سيقع فى مرمى نيران قاسية تنال من وطنية الداعى إلى ذلك الأمر.
كان الرئيس بسيطا وواضحا وحاسما: التطبيع أن تدعم الاحتلال بأى شكل من الأشكال.. نرفض التطبيع مع الكيان المحتل ونرفض التطبيع مع أفراد وكيانات تمثل المحتل، أما زيارة بيت المقدس فإنه الجهاد الأصغر الذى أراه دعما لأهلنا فى القدس، وتواصلا حضاريا وإنسانيا واجتماعيا واقتصاديا.
زيارة بيت المقدس ليست فقط سياحة دينية داعمة للمقدسيين فى حربهم ضد الاحتلال، وإنما تتعدى ذلك بإحساس الناس هناك أنهم ليسوا فرادى، وليسوا منقطعين عن أهليهم فى العروبة والدم والدين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، زيارة القدس بكثافة هو تحريك لعجلة الاقتصاد المقدسى ودعم لأهالينا هناك على خط المواجهة.
دعوة لزيارة القدس
رؤية أبو مازن تتقاطع إلى حد القطيعة مع تيارات قادت حركة المجتمع العربى برمته إلى القطيعة، ومن يفعل غير ذلك يدخل فى دائرة الخيانة والعمالة والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ودعم الاحتلال فى حربه ضد الوجود العربى فى أرضه ووطنه.
وأبو مازن لا يمكن لأحد أن يزايد على مواقفه، فهو منذ شبابه فى طليعة المناضلين الفلسطينيين مهما فرض عليه الموقع الرسمى من مواقف، فيما يكون المعارض فى حل منها، وبالتالى يتمتع بمساحة عريضة من الحركة والدوران وربما المزايدة على الآخرين.
سيدة مصرية بسيطة تعمل مدرسة بإحدى المدارس الخاصة استمعت ذات مرة إلى نداء مفتى القدس يدعو العرب إلى زيارة القدس ودعم المقدسيين فى حربهم، تأثرت السيدة المصرية بدعوة المفتى وعلى الفور بحثت عن شركة سياحة وحجزت أسبوعا هناك حيث لا هناك سوى هناك.
روت لى السيدة المصرية ما حدث معها وكيف تغيرت حياتها بعد الزيارة المباركة إلى أرض طالما حلمنا بعناقها.. تقول: لم أستطع النوم بعد وصولنا إلى فندق صغير، ونزلت إلى الشارع دون دراية منى بالعناوين ولا معرفة بالشوارع والحوارى والأزقة، مشيت يمينا ويسارا وضعت وضاع الطريق دون خوف أو رهبة.
فى كل شبر مضت قدماى كنت أشعر وكأنى أضرب الأرض عناقا وحبا وشوقا، فهنا كانت حكايات المسيح ودروس الفضيلة، وهنا مشى عيسى على أرضها، كانت القشعريرة تسكن بدنى فكل خطوة كنت أتصور أن سيدنا المسيح مضى عليها وستحل بى بركته ومحبته، وكل معانى الإنسانية التى جاء بها من السماء.
بعد ساعتين أو ثلاثة لا أعرف على وجه الدقة تعبت.. ألقيت نفسى على الرصيف، وكأنى جزء من الأرض، نهضت وكأن الزمان يجرى بى إلى نهايات أسبوع تمنيت لو لم ينته، وكلما مررت ببقعة مباركة سألت أين أنا.. يقولون لى أمام باب الخليل.. أمضى دون هدف إلا هدفا واحدا أن ألامس كل شبر فيها.
أسأل مرة أخرى أين أنا.. يقولون عند باب العمود، أسير ببطء أكثر وعيونى تعانق كل ما حولى، أمضى داخل آلة الزمن وأخرج إلى حيث ميدان عمر بن الخطاب، ثم أعود وأسأل: أين أنا؟ يقولون أمام باب داود.. أدخل أكثر عمقا وحولى أسوار المدينة العتيقة التى تكسرت عليها كل غزوات الجبارين.
حصار المقدسيين
عدت إلى الفندق فى ساعة متأخرة بعد جهد جهيد ولم أنم ليلتى.. أنصت فاستمع إلى صولات السيوف ودفقات السهام وأصوات المحررين القدامى تتداعى بصور ذهنية صنعها خيال تواق إلى لحظة تاريخية نعود فيها إلى الديار لنبتنى قلاع الحب كما بنيناها مع صلاح الدين الأيوبي.
على مائدة الإفطار يبدو كل واحد منا غير عابئ بما يأكل، نرغب جميعا فى الجولة الأولى بين أهلنا المقدسيين.. شارع يافا كان السوق المركزى قديما ثم أصبح السوق الكبير الآن، فى شارع صلاح الدين، وجوه أصحاب الحوانيت تبدو عليها علامات الرفض ممزوجة بطيبة أهل المقدس، يستقبلوننا بحرارة وكأننا فارقنا بالأمس القريب.
كنت أشترى ما لا أحتاج إليه وكل ما أشتريه بركة من أرض مباركة، ودعما لأهلى وناسى وللمناضلين بتحدى البقاء رغم الصعاب ورغم محاولات القهر والطرد.
حصول المقدسى على رخصة بناء شقة هنا تصل إلى أكثر من 40 ألف دولار، وتستغرق أكثر من سنتين من العذاب، وقرارات إزالة بيوت المقدسيين وصلت إلى أكثر من 20 ألف بيت، وقد هدم منها أكثر من 1200 بيت منذ عام 2002م والبقية فى الطريق.
تابعت السيدة المصرية حكايتها مع المقدسيين وهى تبكى: يحاصرون أهلنا فى بيت المقدس بسلسلة مخيفة من الضرائب والرسوم والغرامات، تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات، ثم تصدر أحكام قضائية ضدهم بالسجن فلا يكون أمامهم إلا الهروب من القدس، وهذا هو المخطط والمراد أو دخول السجن.
يفضل المقدسيون فى أغلب الأحيان السجن عن الخروج من مدينتهم، فيقضون السنين داخل أسوار سجون الاحتلال، وقد يخرج المقدسى من سجنه ليجد بيته وقد هدم ولم يعد له ما يعينه على البقاء، والمقدسيون مناضلون بالولادة..أنت مولود فى القدس إذن كتب عليك التحدى.
من شارع صلاح الدين الأيوبى إلى شارع هارون الرشيد أقدم شوارع المدينة مرورا بحوارى احتفظت جدرانها بحكايات الأهل الصامدين فى مواجهة كل صنوف التغريب، ومحاولات الطرد وألاعيب عدو لا يجد من يقاومه إلا هؤلاء المولودين على أسوار صنعت المجد وصدرته للبشرية كلها.
انتهى الأسبوع وبقيت الرحلة بكل تفاصيلها، حية، نابضة، موحية.. عادت السيدة المصرية إلى قاهرة المعز لتدعو أهلها وأصدقاءها وجيرانها وزملاءها إلى دعم المقدسيين فى حربهم وتحديهم الوجودى.. من أجل أن يبقى أهلنا فى القدس على عهدهم وعلى وعدهم.. خططوا لزيارة القدس.. طبعوا علاقاتكم بأهلنا هناك ولا تطبعوا علاقاتكم بعدو يقتل الناس ويحرق الزرع ويهدم البيوت.. لا تتركوا أهلنا وحدهم.. كانت هذه رسالة السيدة المصرية العائدة من القدس.