من الشك إلى الإيمان بقيامة المسيح
مع توما والرسل نقول: "ربي وإلهي، زدنا إيمانًا" إلى إخوتي الكهنة والرهبان الأحباء والراهبات الفاضلات، وإلى أبناءنا الأعزاء في أبرشية الإسكندرية وفِي بلاد الإنتشار للأرمن الكاثوليك، وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسوليّة. عليكم النِعمَةُ والسلام من لَدُنِِ اللهِ أبينا ومن لَدُنِ الرّبّ يسوع المسيح القائم من بين الأموات.
أمس الأحد الأغرّ المبارك، إحتفلنا بعيد القيامة المجيدة لربنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وبهذه المناسبة، نتذكر إيمانِ توما الرسول النابع مِن جَنبِ يسوعَ المَطعُون بالحربة والذي افَاضَ مِنهُ دمٌ وماءٌ حيّ، فاض من هذا الجنب رَحمَةً إلَهِيَّةً لِلعَالمِ أَجمَع. لأنّ كُلَّ الخليقة القديمة التي سقطت في الخطيئة وتملكَ فيها الموت أصبحت بفِعلِ قيامة المسيح وانتصارِهِ على الموتِ بالموت خليقةً جديدة.
الايام المنصرمة، والتعاليم الوثنيّة القديمة قد مَضَت واندثرت، أمس يوم قيامة السيد المسيح من بين الأموات، الكلّ في هذا النَّهار العجائبيّ أصبح جديدًا "فإذا كان أحَدٌ مع المسيح، فإنه خلقٌ جديد" كما يُعلمنا القديس بولسُ الرسول في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس (قورنتس الثانية ٥: ١٧). وكأنَّ اللهَ بقوة القائم من الموت، خلقَ الكونَ مِن جديد وطهّرَهُ وفتحَ لهُ باب الملكوت السماويّ الذي أُغلِقَ في وجهِ الإنسان منذُ سقوطه في الخطيئة. فأرجع لهُ هويته الأصلية كآدمٍ جديد وحواءَ جديدة على صورتِهِ ومثالهِ.
إيمان الرسول توما
عيد القيامة هو صورةُ الخلق الجديد، صورةُ الرحمة الإلهية النابعة مِن جنبِ المسيحِ القائمِ مِن الموت الذي فتحَهُ ليضع فيهِ توما الرسول أصبَعَهُ فيؤمِن بهِ. حَدَثُ إيمانِ توما الرسول في إنجيلِ القديس يوحنا، حدثٌ مُمَيَّز في يوم قيامة السيد المسيح المنتصر على الموت. فيهِ تنكشف جُرأةُ توما المعهودة كتِلميذٍ عَقلانيّ، لذلك نراهُ دومًا يسألُ الرَّبَ بمنطق مَنهجيّ وعلميّ كيف يَدخُلَ في سِرِّ الله الروحانيّ الذي لا يدركه العقل البشري.
وّنُشيرُ أيضًا بأنَّ توما الرسول كان يَكُنُّ ليسوع محبّةً كبيرة وغَيرةٍ ناريّة. فبعدما ذهبَ المسيح إلى اليهودية ولمّا هدّدوه بِرجمِهِ بالحجارة (يوحنا ١١: ٧ - ٨) هبَّ توما وقالَ للتلاميذ: "فلنمضِ نحن أيضًا وَنموتَ مَعَهُ" (يوحنا ١١: ١٦). ولَمَّا قال المسيح لتلاميذِهِ: "أنا ذاهبٌ لأُعدَّ لكم مقامًا.. أنتم تَعرفون الطريق إلى حيثُ انا ذاهب"، تشَجَّعَ توما كعادَتِهِ وقاطعه مستوضحًا: "يا رب، إننا لا نعرفُ إلى أين تذهب، فكيف نعرف الطريق؟" (يوحنا ١٤: ٢ - ٥)
مِمّا دَفَعَ بيسوع لإعلان ذاتِهِ أكثر فأكثر قائلاَ: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يوحنا ١٤: ٦). بعد الظهور السابق ليسوع على الرسل وتوما لم يكن معهم، قَالَ سائر التَّلاَمِيذُ لتوما: "رَأَيْنَا الرَّبَّ". فَقَالَ لَهُمْ: "إِذا لَمْ أُبْصِرْ أثرَ الْمَسمارين في يدهِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي مكان المِسمارين، ويَدِي فِي جَنْبِهِ، لن أُومِنْ". ( يوحنا ٢٠: ٢٥ ).
لم يكن الرسل أفضلَ حالٍ منه، فكانوا جَميعًا مُنتظرين المزيد مِن البراهينِ الحسيَّة ليُصدّقوا تمامًا قيامة مُعَلِّمِهم مِن بين الأموات. وبعد ثمانية أيام، كان التلاميذ في البيت مرّةً أُخرى، وكان توما معهم. فجاء يسوعُ القائمُ من بين الأموات والأبواب مُغلقة، فوقف بينهم وقال: "السلام عليكم"، ثم قال لتوما: "هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا فانْظُرْ يَدَيَّ. وهَاتِ يَدَكَ فضَعْهَا في جَنْبِي، ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مُؤْمِنًا".
وما كان لتُومَا إلاّ أن يُعبِّر عن إيمانِهِ فَصرخَ قائلًا: "رَبِّي وإِلهِي". وبناءً على ذلكَ، ومِن خلالِ توما، يسوع أعطى التلاميذ درسًا في الإيمان قائلًا لهم: "ألأَنَّكَ رَأَيْتَنِي آمَنْت؟ طُوبَى للذين يؤمنون ولَمْ يَرَوا". (يوحنا ٢٠: ٢٤ - ٢٩).
هذا الرسول الشاب المُفعم حماسًا ليسوع والباحثُ الدائم عن الحقيقة المُطلقة للوجود الإلهيّ والخلاص التام للبشرية، وجدَ كافة الأجوبة على تساؤلاتِهِ في جُرحِ جنبِ يسوع المسيح القائم من الموت، هذا هو جُرحُ الحُبّ الذي مِنهُ يَتدفّقُ نبعُ الرحمةِ الإلهية الذي لا ينضُب.
ما أهمية شك توما؟
شَكُّ توما طَبيعيٌّ وَمَنهجيّ ولا يَدخُلُ أبدًا ضِمنَ مفهومِ "الشكِّ مِن أجلِ الشكِّ فقط". لأنّ الشكَّ مِن أجلِ الشكّ ينتجُ عن الجهلِ المُظلم ويُصبح مع الوقت نبعًا للشرّ والدمار الذاتي وضلالًا للآخرين. إنما ما يحتاجُهُ توما هو برهانًا ملموسًا ليؤكّد خبَرَ القيامة خوفًا مِن أن يكون المسيح الذي ظهَرَ على الرُسلِ شبحًا لا حقيقةَ له ولا رابطَ له معَ تاريخ خَلاصِ الإنسان.
يقول القديس أوغسطينوس: "انَّهُ (اي توما) شَكَّ على أَنَّهُ لا يَجِب أن نَشُكَّ نحن". فهذا الشكُّ شكَّلَ قفزةً نوعيّةً على طريقِ الإيمان المؤدّي إلى عيشِ إتحادٍ كُلّي بيسوع المسيح. فالعقلُ قُوَّةٌ تَصِلُنا بالله فهو حاجةٌ أساسيّة للإيمان كما يقول القدّيس توما الأكويني: "الإيمان يحتاج العقل". لذا يُصبحُ الشكَّ بالإيمان خطيئة حينَما يشك الإنسان، بعد أن وصلت إليهِ الحقيقة وقَبِلَها، يبدأ بمُعاندِةِ الله ورفضِهِ وإنكارِهِ بعيدًا عن كُلِّ مَنطِقٍ أو عَقلانيَّة وذلكَ مِن أجلِ مآرْبَ دُنيويّة زائلة تَتَعَارض مع تَعليمِ الله والكنيسة خاصةً مِنَ الناحية الأخلاقية.
في هذه الحالة، يُغلق الإنسانُ على ذاتِهِ بابَ السماء لينزِلَ بعدها الى قعرِ جهنم. لذا فَشَكُّ توما الرسول جذبَ المسيح القائم مِن الموت ليَظهَرَ بعد ثمانيةِ أيّام مِن جديد، ليسَ فقط مِن أجلِهِ، بلّ مِن أجلِ الرسُل مُجتمعين، ومِن أجل خلاصِ العالم أجمع، جُرحُ حُبِّهِ المُقدّس. وبِسلامٍ مُطلق، قال الرّبُّ يسوع لتوما: "هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا فانْظُرْ يَدَيَّ. وهَاتِ يَدَكَ فضَعْهَا في جَنْبِي. ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مُؤْمِنًا". فتجلّى يسوع أمام الجميع بصورةِ الرحمةِ الإلهية والحُبّ الخلاصيّ. فَصرخَ توما باسمِنا جَميعًا: "ربّي وإلهي" (يوحنا ٢٠: ٢٧ - ٢٨).
هاتانِ الكلمتان شكَّلت قانونَ إيمانٍ عظيم في قلبِ الجماعةِ المؤمنة. لذا، حين نفتح قلبَنا لكلماتِ يسوع المؤلّهةِ لنا، تجتاحُنا موجةٌ قوية تُفني كُلَّ شكوكِ إيماننا وتزرعُ مجّانًا في كيانِنا نعمةَ إيمانِ الرُسُل.
الرجاء ثمرة القيامة
قيامة السيد المسيح تَخلُقُ الإنسان مِن جديد وتملأهُ سلامًا إلهيًّا، ليَكونَ شاهدًا لرجاءِ القيامة: أمامَ هذا الواقع المؤلم والمُظلم داخلَ جدران الخوف وأبوابِ الإنغلاق، لم يستطع المسيح القائمُ مِن الموت إلاّ أن يجذبَ إلى قلبه وحُبِّهِ اللامتناهي رُسُله والمؤمنين به.
دخلَ والأبوابُ موصدة. حضَرَ بمجدِ لاهوتِهِ حاملًا آثارَ خطايا البشر في جنبِهِ ويديه وهي أيضًا آثارَ حُبِّهِ اللامتناهي وقال: "السلامُ لكم". لم يتذمَّر ولم يوبِّخ توما لِعدَمِ إيمانِهِ وشكّهِ. أراهُ جروحاتِهِ وأخذ إصبَعَهُ ووضعَهُ في جنبِهِ. فَمِن هذا الجنب الطاهر، فاضَ مُباشرةً نبعٌ عظيمٌ مِن الرحمة والحبّ، طردَ السوادَ القاتم وملأ قلبَ توما والرسل ومن بعدهم كل البشر سلامًًا إلهيًا، وقطَّفوا مَعًًا ثمرةَ الرجاءِ الأكيد واليقين بقيامة الرّب وانتصارِهِ على الموت فخُلِقوا مِن جديد.
أشكُرُكَ يا رب لأنَّكَ زِدتَني إيمانًا وثبَّتَني بسرِّ قيامتك، قَوَّيتَ ثقتي بكَ يا مسيح خلاصي، خَلقتَني مِن جديد مِن رَحَمِ جنبِكَ الطاهر وجَعلتَني ابنَ قيامتِك. وَهبتَني سلامَكَ الإلهيّ لأكونَ، إلى الأبد، شاهدًا لرجاءِ قيامتِكَ وحياتِكَ الأبدية في كُلِّ الأرض.
فبقوّةِ إيمانُنا وصلاتنا، نٓستطيع أن ننتصِر على يأسنا ونٓنزعه مِن جذورهِ لِنزرع مَكانه السلامَ الإلهيّ النابع مِن رجاءِ القيامة. حينها يُخيّم على قلوبنا المؤمنة بالقيامة وبالرحمةِ الإلهية فرحٌ لا يوصف، فليس مسموحًا للإنسان المؤمن برجاءِ القيامة أن يقع في الإحباط واليأس ويفقد إيمانَه وسلامَهُ.
يا إلهي في عيدِ قيامتك، تعالَ وأفض في قلوبِنا رحمةً وسلامًا ومحبةً. نريد أن نكون رُسُلًا لقيامتك ولرحمتِكَ في عالمٍ يحيا في ألمِ الشكِّ واليأس. نجّنا مِن الشكوك التي تُهلِكُ نفوسَنا. فنبني معًا، أينَمَا حَلَلنَا، حضارَةَ المحبّة والرحمَةِ المبنية على سلامِ رجاءِ قيامتِكَ.
المسيح قام.. حَقًَا قام.