حكاوى زمان، المضحكات المبكيات
في كتابه «جحا الضاحك المضحك» كتب الأديب عباس محمود العقاد فصلا يقول فيه:
كانت لى فى نحو السادسة عشرة مفكرة يومية أدون فيها خاطرى وتعليقاتى، جمعتها بعد ذلك باسم “خلاصة اليومية”، وحذفت منها عند الطبع كثيرا من الخصوصيات التى ترتبط بتلك الخواطر.
وأحسبنى قد كتبت فيها عن المضحكات، وهى أكثر من الضحك، وقلت عنها: إن المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضرورى أن نفتش عن الرجل من أمثال موليير لنغرب في الضحك، فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنا للنقص، وفي كل عمل موضعا للكلفة والتصنع، والوداع الناعم البال ولو كان مغمورا بالشقاء..
هذا الرجل الذى يعرف كيف يقطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان.. فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه. وهنا أقارن أسبابا بملاحظة النقص والادعاء والغرور والكلفة التى يحاول صاحبها أن يخدع الناس عن الحقيقة.. وهى واضحة لمن يلتفت إليها..
أسباب الضحك والبكاء
أن للضحك أسبابا أكثرها يدور حول محور واحد هو الارتباط بأنفسنا، ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورا بنجاحه وتميزه، فهو يضحك في الأحوال التى رجحانه فيها معروف غير محدود. فالرجل المعروف المكانة لا يضحك من تصرفات الصعلوك الوضيع، وإن كان مضحكا في ذاته إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهى بطبقته أو من أهل بلاد ليباهى ببلاده.
وقد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده، فلما كان ملوك أوروبا وأمراؤها وقوادها مجتمعين عام 1815 فى فيينا، وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت، وقد جلسوا يصلحون ما أفسده، أعلن فى المجلس أن الرجل قد أفلت من جزيرة إلبا وأنه عاد ثانية إمبراطورا على فرنسا، فارتفعت لهم ضحكة عالية كأنما كل منهم يقول: “لقد ضحك علينا كلنا”.
ولى خاطرة فى البكاء قلت فيها أن الإنسان يبكى لغير ما يضحك له، يبكى حين يظهر به النقص.. يبكى فى المواضع التى يشعر لديها بالقهر ويتحقق له تجرده من الحول والقوة حيالها، هنا يقول المسلم لا حول ولا قوة إلا بالله كأنه لا يريد أن يكون ضعيفا إلا أمام الله الذى يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم فى الضعف أمام حوله وقوته.
في هذه الخاطرة حسبت أن الضحك والبكاء نقيضان وأن الإنسان يبكى لغير ما يضحك له، وليس هذا صحيحا في جميع الأحوال إذ نحن لا يضحكنا كل شيء لا يبكينا، وقد يكون الشيء مضحكا ومبكيا.
وقال الشاعر بيرون: “إنى أضحك لكى أبكى”، ويقولون: إن الضحك بدل البكاء في بعض الأحوال، وخلاصة القول إن الشعور بالمضحكات والمبكيات ملكة إنسانية وجدت فى الإنسان وحده ولم توجد فى الحيوان.