رئيس التحرير
عصام كامل

حدث في رمضان.. موقعة البويب في 11 رمضان والثأر لشهداء الجسر

موقعة البويب
موقعة البويب

انتصر المسلمون في موقعة «البويب» في 11 رمضان سنة 13هـ بعد أن أرسل الفرس جيشًا بقيادة مهران بن بازان، عبر الفرس الجسر إلى موضع يُسمى البويب، والتقى المسلمون معه في قتال عنيف، وكانوا بقيادة المثنى بن حارثة وقد نصر الله المسلمين نصرًا أعاد إليهم ثقتهم في أنفسهم بعد هزيمة موقعة الجسر.

موقعة الجسر

وموقعة الجسر هي إحدى المعارك التى دارت بين المسلمين والفرس سنة (١٣ هـ)، أثناء فتوحات المسلمين فى العراق (بلاد فارس آنذاك).

 وسميت باسم الجسر لأن المسلمين أقاموا جسرًا على «نهر الفرات» لعبور قواتهم البالغة تسعة آلاف جندى، كما سميت باسم قس الناطف.

وكان جيش المسلمين بقيادة أبى عبيد بن مسعود الثقفى، فى حين كان جيش الفرس بقيادة بهمس جازويه المعروف بذى الحاجب. 

معركة الجسر

وفى بداية المعركة عبر أبو عبيد الجسر بجيشه، وكان عبورهم النهر خطأ عسكريًا جسيمًا وقع فيه «أبو عبيد»، ولم يستمع إلى نصيحة قادة جيشه ومنهم «المثنى بن حارثة»، الذين نبهوه إلى خطورة ذلك، وأن موقف المسلمين غربى النهر أفضل وضع لهم، وليتركوا قوات الفرس تعبر إليهم، فإذا انتصروا كان عبور النهر إلى الشرق أمرًا سهلا، وإذا انهزموا كانت الصحراء وراءهم يتراجعون فيها، ليعيدوا ترتيب أوضاعهم، لكن «أبا عبيد» لم يستجب لهم، والتقى بجيش الفرس الذى كان يتقدمه مجموعة كبيرة من الفيلة الضخمة التى أخافت خيول المسلمين وأربكت حركتهم؛ فاضطربت صفوف المسلمين، واستشهد عدد كبير منهم، ثم أمر أبو عبيد جيشه بقتل الفيلة أولًا ففعلوا ذلك، وقد أُصيب أبو عبيد بضربة شديدة أدت إلى استشهاده، فتناوب عدد من الفرسان المسلمين اللواء فاستشهدوا، ثم تسلّم المثنّى بن حارثة اللواء، فأمر المسلمين بالتراجع حتى ينظموا صفوفهم، ولكن الجسر انكسر بمقدمتهم؛ فانحصر المسلمون فى أرض المعركة فاستشهد منهم عدد كبير قتلًا وغرقًا، فى حين قتل من جيش الفرس نحو ستة آلاف مقاتل.

حرب البويب

ثم جاءت حرب البويب التي أعادت للمسلمين ثقتهم بعد هزيمة الجسر، ولقد عَدَّها ابن كثير نظيرَ معركة اليرموك مع البيزنطيِّين، وذلك لقوَّتها وتأثيرها؛ فلقد أحصوا فيها مائة رجلٍ من المسلمين قَتَل كلٌّ منهم عشرة، ولذلك سُمِّيَت بيوم الأعشار.

حروب المسلمين مع الفرس

وقعت معركة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة من الهجرة؛ فبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر استنفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس الى العراق، فتجمَّع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربيَّة، وولَّى عمرُ رضي الله عنه الصحابيَّ الجليل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قائدًا لذلك الجيش، فخرج الجيش إلى العراق، وكان في الجيش عددٌ كبيرٌ من بجيلة قومِ جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، ولم يكتفِ عمر رضي الله عنه بذلك الجيش، بل أرسل جيشًا آخر بقيادة عصمة بن عبد الله الضبي، كما أمر من تاب من أهل الرِّدَّة بالقدوم إلى المدينة، ثم أرسلهم إلى العراق كذلك.

حيوش الفرس

وكان الجيش الإسلامي في العراق -بعد هزيمة المسلمين في موقعة الجسر- قد انسحب بقيادة المثنى بن حارثة رضي الله عنه، وعسكر بمنطقةٍ تُسمَّى مرج السباخ، وهي بين القادسيَّة وخفَّان، وتتميَّز بأنَّها بالقرب من الصحراء، والجيش الفارسي لا يُجيد مهارة القتال فيها كما يُجيدها المسلمون، وظلَّ المثنَّى رضي الله عنه منتظرًا المدد الإسلامي القادم من المدينة، وفي هذه الأثناء علم الفرس من خلال جواسيسهم بالجيوش الإسلاميَّة التي في طريقها إلى المثنَّى، فاجتمع كبار رجال الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، وعرض القائدان الفارسيَّان رستم والفيرزان أمر تجمُّع الجيوش الإسلاميَّة على ملكة الفرس بوران، واستأذنها في إرسال جيشٍ بقيادة مهران لملاقاة المثنَّى، فوافقت بوران على ذلك.

مكان معركة البويب

توجَّه الجيش الفارسي من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وفيه اثنا عشر ألف جنديٍّ من أشجع جنود الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، حيث عبَّأت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة جيشًا قويًّا؛ فقد كان مع كلِّ فارسٍ راجلٌ، وصَحِبَ الجيش ثلاثة أفيال، وذلك لمقابلة المسلمين.

معركة البويب

وكان المثنَّى بن حارثة رضي الله عنه ما زال يُعسكر بمنطقة مرج السباخ، فعلمت المخابرات الإسلاميَّة بتحرُّكات جيش الفرس إلى الحيرةواستفاد المثنَّى رضي الله عنه من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقرَّر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجَّه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى "البُوَيْب"، وأرسل رسالةً إلى جرير بن عبد الله رضي الله عنه، ورسائل أخرى إلى أمراء القوَّات الإسلاميَّة القادمة من المدينة بأنْ يتوجَّهوا إلى البُوَيب؛ حيث أرسل لهم قائلًا: "جاءنا أمرٌ لم نستطع معه المقام حتى تقدَّموا علينا، فعجِّلوا اللِّحاق بنا، وموعدكم البويب". وتقدَّم المثنَّى رضي الله عنه، وعسكر على شاطئ البويب الشرقي لنهر الفرات، ولم يعبر المثنَّى رضي الله عنه الفرات؛ فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قادة المسلمين بعدم عبور أيِّ بحرٍ أو جسرٍ لملاقاة الفرس، إلَّا بعد الانتصار عليهم.
وكان أمرُ عمر رضي الله عنه للمسلمين على جانبٍ كبيرٍ من الأهميَّة؛ فقد أراد عمرُ رضي الله عنه أن يتجنَّب المسلمون حصار الفرس لهم كما حدث في معركة الجسر، كما أنَّه إذا خسر المسلمون يستطيعون الانسحاب بسهولة إلى قواعدهم، وفي هذه الحالة يسهل على عمر رضي الله عنه إمدادهم.
وكان الفرس قد وصلوا إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات، ففصل نهرُ الفرات بين الجيش الإسلامي وبين الجيش الفارسي القادم من المدائن، وكأنَّ أحداث معركة الجسر تتكرَّر مرَّةً أخرى؛ حيث إنَّه عندما نزل مهران على شاطئ الفرات أرسل إلى المثنَّى يقول: "إمَّا أن تعبر إلينا، وإمَّا أن نعبر إليك". فقال المثنى رضي الله عنه: اعبروا.
 كان المثنَّى رضي الله عنه قد نظَّم جيشه جيِّدًا؛ فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وكان المثنَّى في مقدِّمة الجيش، وجعل فرقةً في الجيش باسم فرقة الاحتياط كانت في المؤخِّرة لا تشترك في القتال وعلى رأس هذه الفرقة مذعور بن عدي، وفرقةً للخيول على رأسها أخوه مسعود بن حارثة، وعلى فرقة المشاة المـُعَنَّى بن حارثة، وبدأ يُحفِّز الجيش للقتال، ويمرُّ على كلِّ قبيلةٍ بمفردها قائلًا لأهلها: إنِّي لأرجو ألَّا تُؤتى العرب اليوم من قِبَلِكم، والله ما يسرُّني اليوم لنفسي شيءٌ إلَّا وهو يسرُّني لعامَّتِكم.
رتَّب المثنَّى رضي الله عنه الجيش بصورةٍ دقيقةٍ ومنظَّمةٍ للغاية، ورأى المثنَّى رجلًا متقدِّمًا من مكانه في الصفِّ فسأل عنه، فقال الناس: إنَّه كان ممَّن فرُّوا يوم الجسر، وهو الآن يستقتل. فضربه المثنَّى على صدره، وقال: لا أبا لك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل. قال: إنِّي بذلك لجدير. فاستقرَّ ولزم الصف. 

حروب المسلمين مع الفرس

وكان يرُسل لِمَن لا يصل إليهم رجلًا يقول: إنَّ الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. فقالوا: نعم. واعتدلوا، ونظروا إلى المثنَّى رضي الله عنه فوجدوه يضحك، فازدادت معنويَّاتهم كثيرًا، وهكذا كان المثنَّى رضي الله عنه يقود جيشه.

خطة معركة البويب

وأصبح الجيش المسلم مهيَّئًا للقتال جيِّدًا، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرضٍ قد حاصرها المسلمون من كلِّ مكان، ويتكرَّر المشهد؛ فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوَّات الفارسيَّة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأنَّ المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيِّقة؛ حيث كان الجيش الفارسي يتكوَّن من ثلاثة صفوف، وفي كلِّ صفٍ فيل، فبذلك يُقابل صفُّهم الأوَّل فقط صفَّ المسلمين الأوَّل، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة غير الصفِّ الأوَّل من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إِذَنْ، وإنَّما يُبْنى النصر أو الهزيمة على مدى قوَّة الصفِّ المحارب من كلا الفريقين، وكان هذا اختيارًا موفَّقًا من المثنَّى، وتعويضًا لِمَا حدث في معركة الجسر من اختيارٍ سيِّئٍ لأرض المعركة.

دخل الجيش الفارسي المصيدة، والجيش الإسلامي في المنطقة الأماميَّة، وتقدَّم الفرس وهم يصيحون صيحات مزعجة حتى يُوقِعُوا الرعب في جيوش المسلمين، وبهدوءٍ عجيبٍ يقول المثنَّى رضي الله عنه لجيشه: إنَّ الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسًا وأمر المثنَّى جيشه بالتكبير ثلاث مرَّات، وفي الرابعة بَدْء القتال، غير أنَّه مع أوَّل تكبيرةٍ بدأ الفرس الهجوم على المسلمين.

قتل قائد الفرس

والتحم الطرفان في قتالٍ شديد، واستطاع الفرس صدَّ ضربات المسلمين في بداية القتال، ولمـَّا امتدَّ القتال لوقتٍ كبيرٍ سدَّد المثنَّى رضي الله عنه ضرباتٍ مباشرةً قادها هو بنفسه لقلب الجيش الفارسي، الذي كان يوجد فيه مهران قائد الفرس، حتى تقهقر مهران من القلب إلى ميمنته، واستطاع أحد المسلمين قتل مهران بن مهر بنداذ قائد الفرس، وكان لقتله أثرٌ كبيرٌ على الفرس، واختلف المسلمون بعد المعركة فيمن قتله، والأقرب أنَّه قد اشترك كلٌّ من جرير بن عبد الله رضي الله عنه، والمنذر بن حسَّان في قتله.


قطع الجسر

وعلى الرغم من هزيمة القلب في جيش الفرس، فإنَّ ميمنة وميسرة جيش الفرس ظلَّتا تُقاوم فترةً إلى أن بدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي، حتى انهارت مُجنِّبَتي الجيش الفارسي، وبدأ الفرس في الهرب، لكنَّ المثنَّى رضي الله عنه استطاع أن يسبق الفرس الفارِّين إلى الجسر الذي كان قد عبروا عليه للقاء المسلمين، وقطع الجسر على الفرس الذين يُريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلَّا أن يُقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفيةٍ مع الجيش الفارسي.
انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا، وأَسَرَ المسلمون من الفرس نحو ثلاثة آلاف جندي، ولضيق المكان كانت جثث الفرس يعلو بعضها بعضًا، ويذكر المؤرِّخون أنَّ عظامهم ظلَّت فترةً طويلةً متراكمةً على بعضها نظرًا إلى كثرتها.
وندم  المثنَّى رضي الله عنه على قطع الجسر، وقال: لقد عجزت عجزةً وقى اللَّه شرَّها بمسابقتي إيَّاهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فإنِّي غير عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيُّها الناس، فإنُّها كانت منِّي زلةً لا ينبغي إحراج أحدٍ إلَّا من لا يقوى على امتناع، فمع كون المثنَّى رضي الله عنه هو القائد إلَّا أنَّه عندما ظنَّ أنَّه أخطأ جَمَع جيشه، وعلَّمه الصواب معترفًا بخطئه، غير متعالٍ على جنده، فكان يجب عليه ألَّا يُكْرِه الفرس على القتال.

الجريدة الرسمية