حدث في رمضان، الظاهر بيبرس يسترد مدينة إنطاكية بعد 170 عاما في يد الصليبيين
نجح المسلمون بقيادة الظاهر بيبرس في استرداد مدينة إنطاكية من يد الصليبيين يوم 5 من رمضان 666هـ الموافق 19 من مايو 1268م بعد أن ظلت أسيرة في أيديهم 170 عامًا.
وكان لوقوعها صدى كبير، فقد كانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في الشرق سنة 491هـ الموافق 1097م، وكان سقوطها أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين.
وتحول الظاهر بيبرس إلى أسطورة وسيرة شعبية تروى بعد أن أذاق الجيوش الصليبية مرارة الهزيمة في أكثر من موقعة، وأصبح الفتى القبجاقي الذي بيع في سوق الرقيق في دمشق وهو في الرابعة عشرة من عمره وعايش أحداثا جسيمة واجهها بمنتهى الشجاعة ورباطة الجأش سيدا على المسلمين في حياته الحافلة التي قضى معظمها في ميدان المعركة، حتى توفي في مدينة دمشق ودفن فيها سنة 676 هجرية، ليتداعى بعد وفاته إرثه الكبير وعقيدته العسكرية التي لم تتكرر حتى قيام الدولة العثمانية.
مدينة أنطاكية
إمارة أنطاكية (باللاتينية: Principatus Antiochenus) هي دولة صليبية تأسست عام 1098 بعد استيلاء الصليبيين على مدينة أنطاكية خلال الحملة الصليبية الأولى (1096–1099). أصبح الأمير بوهيموند أول حكام إمارة أنطاكية، استمرت الإمارة حتى عام 1268 حينما سقطت بيد المماليك بقيادة الظاهر بيبرس.
وبحسب بعد المراجع التاريخية، استطاع المسلمون دخول المدينة سنة 637 م، ولكن الإمبراطور نيكيفوروس الثانى عاد فسيطر عليها، وفي عام 1085م، وقعت بيد السلاجقة، وأثناء الحملات الصليبية على سوريا دخلها الفرنجة عام 1096 م بعد أن حاصرها بوهيموند، ليصبح أول حاكم صليبي لها مكونا إمارة أنطاكية وهى أول إمارة صليبية، وبقيت المدينة في يد الصليبيين في الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والثالث عشر حتى قيام الظاهر بيبرس السلطان المملوكي بتحريرها منهم سنة 1268 م.
وبحسب كتاب " نيابة طرابلس الشام فى عصر سلاطين المماليك (688 –922هـ/ 1289– 1516م)" للدكتور شريف عبد الحميد محمد عبد الهادى، فقد كانت أنطاكية مدينة كبيرة قوية التحصين، سبق أن عجز الأباطرة البيزنطيون أنفسهم عن أخذها من الصليبين، لذلك أختار بيبرس أن يكتب إلى الصليبيين فى أنطاكية يدعوهم وينذرهم بالزحف عليهم، وفاوضهم فى ذلك مدة ثلاثة أيام وهم لا يجيبون.
وبدأ "بيبرس" بمهاجمة المدينة حتى نجح فى اقتحامها وعندئذ فرت الحامية التى تقدر بثمانية آلاف إلى القلعة وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم السلطان، وهكذا تم استيلاء بيبرس على أنطاكية فى رمضان سنة 666 هـ، أواخر مايو 1268م، فدمرها وأحرق قلعتها، ثم قام بكتابة رسالة إلى بوهيمند السادس أميرها وأمير طرابلس يخبره بما حل بمدينته ورجاله.
الهجوم على أنطاكية
قسم بيبرس جيش إلى ثلاث فرق، أرسل فرقة منهم إلى السويدية -وهو ميناء انطاكية- كي يقطع الاتصال بين أنطاكيا والبحر، وأرسل الأخرى إلى طرق الشام في جبال طوروس كي يمنع وصول إمدادات الأرمن لانطاكيا، وقاد هو الجيش الثالث وطوق به انطاكيا. وكان بوهيموند السادس وقتها موجودا في طرابلس، وتولى حماية المدينة «سيمون مانسل». وخرج مانسل بجيشه لمحاربة بيبرس لكنه وقع في الأسر.
في اليوم التالي هجم بيبرس على أسوار أنطاكية ولكنه لم يتمكن من فعل شيء، وكذلك لم يصل بالتفاوض مع المحاصرين بنتيجة، وظل الوضع على حاله حتى شن بيبرس هجومه الشامل يوم 18 مايو وتمكن جنوده من عمل ثغرة في السور، فدخلت قواته المدينة وقامت معركة كبيرة حيث أمر بيبرس بقفل أبواب المدينة حتى يمنع خروج أي شخص من المدينة. لكن الآلاف أسعفهم الحظ واستطاعوا اللجوء إلى قلعة المدينة الموجودة بأعلى الجبل، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا.
إمارة انطاكية هي أول إمارة كونها الصليبيين في الشرق زمن الحملة الصليبية الأولى، واستمرت 171 سنة، فكان سقوطها ضربة كبيرة للصليبيين ودرس قوى لتحالف أنطاكية مع المغول. من يومها لم تقم لأنطاكيا قائمة، فبعدما كانت مركز تجارى وعسكري كبير، أضحت مجرد قلعة في أطراف سوريا.
بعد سقوط إمارة انطاكية بثلاث وعشرين عاما سقطت عكا فانتهت الإمارات الصليبية بأكملها.
الظاهر بيبرس
والظاهر بيبرس ولد في صحراء القبجاق سنة (620هـ - 1223م) ووقع في أسر المغول وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسوق الرقيق بدمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البُنْدقداري، فسمي “بيبرس البندقداري” نسبة إليه.
ثم انتقل إلى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ثم رقاه قائدًا لفرقة المماليك لما رأى من شجاعته وفروسيته.
ولما تخلص الملك عز الدين أيبك من غريمة ومنافسه “فارس الدين أقطاي” زعيم المماليك البحرية، فر بيبرس ومن معه من المماليك بلاد الشام، وظل متنقلا بين دمشق والكرك حتى تولى سيف الدين قطز الحكم سنة (658هـ-1260م) فبعث إليه يطلب منه الأمان والعودة إلى مصر، فأجابه إلى طلبه، وأحسن استقباله وأنزله دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها.
واشترك مع قطز في معركة عين جالوت سنة (658هـ - 1260م) وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان من أبطالها المعدودين. وبدلا من أن تسمو روح الجهاد بنفسه وتصبغ قلبه بالسماحة واللطف، تطلعت نفسه إلى السلطة والميل إلى الثأر، فامتلأ فؤاده بالحقد من صديقه القديم السلطان سيف الدين قطز، وحمل في نفسه رفض قطز إعطاءه ولاية حلب وعد ذلك انتقاصًا من قدره وهضمًا لدوره في عين جالوت، ووجد من زملائه من يزيده اشتعالا فدبر معهم مؤامرة للتخلص من السلطان وهو في طريقه إلى القاهرة، وكان لهم ما أرادوا وجلس بعدها على عرش مصر وتلقب السلطان الجديد بالملك الظاهر.
تولي بيبرس السلطنة ولم يكد بيبرس يستقر في السلطنة حتى بدأ عهدا جديدًا وصفحة مشرقة في تاريخ مصر، وبدأ في التقرب إلى الخاصة والعامة، فقرب إليه كبار الأمراء ورجال الدولة، ومنحهم الألقاب والإقطاعيات الواسعة، ووجه عنايته إلى ترتيب شئون الدولة، وتخفيف الأعباء على الأهالي، فأعفاهم من الضرائب، وأطلق المحبوسين من السجون، وجدّ في استرضاء رعيته، وأرسل إلى الأقطار المختلفة ليقرّ التابعون لدولته بسيادته وحكمه.
غير أن الأمور لم تتم لبيبرس بسهولة ويسر، فتدعيم سلطان الدول يحتاج إلى مزيد من العمل، وقيادة تجمع بين السياسة والشدة والحزم واللين، وأعداء الدولة في الخارج يتربصون بها الدوائر، وحُكمه يحتاج إلى سند شرعي يستند إليه.
مرحلة البناء بدأ بيبرس عهده بالعناية بدولته وترسيخ دعائمها والقضاء على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، ففي السنة الأولى من حكمه نشبت ثورتان عارمتان، إحداهما بدمشق والأخرى بالقاهرة، أما الأولى فقام بها الأمير “علم الدين سنجر الحلبي” نائب دمشق احتجاجًا على مقتل سيف الدين قطز، ورفضا للإقرار بسلطنة بيبرس، ولم يكتف بالتمرد والعصيان بل أعلن نفسه سلطانًا وحاول استمالة بعض أمراء الشام إلى جانبه، لكنه لم يجد معاونًا، ولجأ بيبرس معه إلى الإقناع والمسالمة للدخول في طاعته وترك العصيان، فلما لم تفلح معه الطرق السلمية جرد إليه جيشًا أتى به إلى القاهرة مقرنًا في الأصفاد في (16 من صفر 659هـ- 1260م).
أما الثورة الثانية فقادها رجل شيعي يعرف بالكوراني أظهر الورع والزهد، وسكن قبة جبل المقطم، واستمال بعض الشيعة من السودان، وحرّضهم على التمرد على السلطة الجديدة؛ فثاروا في شوارع القاهرة في أواخر سنة ( 658هـ- 1260م)، واستولوا على السلاح من حوانيت السيوفيين، واقتحموا إسطبلات الجنود، وأخذوا منها الخيول، لكن بيبرس أخمد الثورة بمنتهى السرعة والحزم، وأمر بصلب الكوراني وغيره من زعماء الفتنة.
الخلافة العباسية
وكانت الخطوة الثانية التي خطاها بيبرس بعد أن استتب له الأمن في البلاد، وفرض سلطته، هي إحياء الخلافة العباسية التي سقطت مع سقوط بغداد في يد هولاكو في ( 4 من صفر 656هـ - 10 من فبراير 1258م) ولم يكن سقوطها أمرًا هينًا على المسلمين، وخيل لهم أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب، وذلك لهول المصيبة التي وقعت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).
ونجح بيبرس في استقدام أحد الناجين من أسرة العباسيين هو “أبو العباس أحمد”، وعقد في القلعة مجلسًا عامًا وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدة انتصارات عليهم في “البيرة” و”حران”.
وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك فإنهم كانوا يعاودون الهجوم، حتى ألحق بهم بيبرس هزيمة ساحقة عند بلدة “أبلستين” بآسيا الصغرى سنة (675هـ - 1277م) وبذلك أمّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية.
وأقام بيبرس عددًا من المؤسسات التعليمية، فأنشأ المدرسة الظاهرية بالقاهرة سنة (660هـ - 1262م)، واستغرق بناؤها عامين، وجعل بها خزانة كتب كبيرة، وألحق بها مكتبًا لتعليم أيتام المسلمين القرآن، وأنشأ بدمشق مدرسة عرفت باسمه، وشرع في بنائها سنة (676هـ - 1277م)، ولا تزال هذه المدرسة قائمة في دمشق حتى الآن، وتضم مكتبة ضخمة تُعرف بالمكتبة الظاهرية.
وأنشأ في القاهرة جامعًا عظيمًا عرف باسم جامع الظاهر بيبرس سنة (665هـ - 1267م) ولا يزال قائمًا حتى اليوم، لكنه تعرض لإهمال شديد وبخاصة في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، وكأن فتحه يثير في نفوس المصريين ذكرى البطولة والشجاعة التي كان عليها منشئ المسجد، فآثر الإنجليز السلامة وأغلقوا المسجد. وقد سُمي الحي الذي حوله بـ”حي الظاهر” نسبة إليه.
وأولى بيبرس عنايته بالزراعة فأنشأ مقاييس للنيل، وأقام الجسور، وحفر الترع، وأنشأ القناطر، واهتم بالصناعة وبخاصة ما يحتاج إليه الجيش من الملابس والآلات الحربية. وامتدت يده إلى الحجاز، فأقام عدة إصلاحات بالحرم النبوي، وبنى بالمدينة مستشفى لأهلها، وجدد في الشام مسجد إبراهيم عليه السلام وقبة الصخرة وبيت المقدس. ويذكر له أنه كان أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، فأقام دار العدل سنة (661هـ - 1263م)، وخصص يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع يجلس فيهما للفصل في القضايا الكبيرة يحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين.
وبعد حياة طويلة في الحكم دامت سبعة عشر عامًا توفي الظاهر بيبرس بعد أن تجاوز الخمسين في (28 من المحرم 676هـ - 2 من مايو 1277م) بعد أن أرسى دعائم دولة، وأقام حضارة ونظمًا، وخاض معارك كبرى للدفاع عن الإسلام، وتبوأ مكانة رفيعة في نفوس شعبه حتى نسج الخيال الشعبي سيرة عظيمة له عُرفت بسيرة الظاهر بيبرس جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة.