انفلات النسيج.. رؤية للخروج عن المألوف الأدبي
حالة الابتكار اليومية حسب ما يطرحه الزمن وينتجه المتخيل البشري من رمزية أو مباشرة كلا حسب رؤية مؤقتة مرهونة باللحظة الآنية يمكن أن أقول إنه تعريفي الخاص للإبداع الأدبي، لذلك لم أتعجب ولم أقف موقف الصارم الصادم الرافض لهذه اللحظة الإبداعية بل علينا أن نقيّمها ونتفهم ظروف وملابسات عصرها ونؤرخ ونبشر بها إذ تحققت فيها شروط جنون الإبداع المارقة أو حتى المتزن منها.
ومن هذا النوع ما يطلق عليه قصص قصيرة جدا، ومع اختلافي مع هذا المسمى الذي يصر عليه نفر من النقاد العرب كما يستهويه كذلك بعض المبدعين العرب إلا أن هذا الفن بعيد عن جدل الاختلاف أو الخلاف حول المسمى، فهو فن عربي خالص نابع من الموروث النثري وهو أقرب في اعتقادي إلى نص سردي بغض النظر عن مساحته الكمية، ويمكن وصفه بالجملة النثرية أو بالجمل السردية ذات دلالة تعبر عن حالة إنسانية في لحظة إحساس ما.
وفي ضوء التوصيف السابق جاء "انفلات النسيج"، للكاتبة المغربية "مينة قسيري"، وعلى الرغم من إصرار الكاتبة ودار النشر على تجنيس العمل بـ"قصص قصيرة جدا". لكن بحق العمل جيد ومبشر، وهو يثبت وجهة نظري النقدية حسبما توصيفي السابق لهذا النوع الأدبي.
منذ الوهلة الأولى لعتبة الولوج المعنونة لهذه النصوص السردية بـ"انفلات النسيج"، وهي جملة نثرية كما يفسرها عنوانها ذات دلالة لغوية مكونة من مضاف ومضاف إليه وهو خبر لمبتدأ محذوف، وهنا لعبة غواية الانفلات التي تكمن في متن المخبور عنه!
مينة قسيري ولعبة الأبراج
وعلى ذات صلة تكشف عتبة العنوان الخارجي "انفلات النسيج" التي توحي بالخروج عن المألوف في تلك المفردة "انفلات" التي تدل على التملص والخروج من تحت السيطرة، ليتبادر للذهن سؤال حول طبيعة هذا الانفلات، ومن ثمة انفلات مِنْ مَنْ ؟ انفلات عن ماذا؟ ولتوضيح ولتحديد تأتي المفردة الثانية في جملة العنوان لتخبر أن الانفلات عن النسيج.
وفي حقيقة الأمر أنه حال مربكة، فجملة العنوان متعددة التأويل في شقها الثاني"النسيج"، ليستمر الاستفهام حول ما هية هذا النسيج، هل المقصود به النسيج البشري والخروج عن سيطرة البشر أم هو نسيج العنكبوت مما يوحي لرمزية النسج والانفلات عن القوى الشريرة التي نسيجها لهو من أهون البيوت؟ أم أنه نسيج الحياكة كرمزية عن الخروج عن المألوف والتمرد حتى لو بالتعري وكشف حقيقة البشر؟
لمحت الساردة/ الراوي عن عوالم الفضاء المكاني والزمني والشخصيات بشكل مبهم مقامر بنرد الضمير الغائب لنسج سردية تهوى الانفلات من قبضة ما، وهنا كمن"السر" الذى استفتتحت به الساردة حكاية نسيجها، لتليها مباشرة بـ"الفراغ". ثم تتوالى عملية الغزل على نول مصير القرارات والاختيارات البشرية التي تنقذ شيئا ما بداخلنا، وإن كانت خطأ في بعض الأحيان.
إن التأمل في عدد النصوص ككَم وكيف، فقد وصلت إلى (56) نصا، حيث لا تتعدى بضعة أسطر وتصل بالكاد إلى ربع صفحة كمتن سردي، ويشير ذلك إلى الإيجاز والتكثيف الشديد في إبراز قضية عتبة العنوان الخارجي "انفلات النسيج" التي حملت نفس المدلول اللفظي لعنونة داخلية لتكشف عن قوة ومتن النسيج الذي سلب حق التجول في نطاق الغرفة التي ظل صاحبها ماكثا فوق المقعد ليختار بين البعد القصير والهجر الطويل كأمر مربك ومحير للنسيج البشري حين يقع في أزمة منتصف الاختيار.
ولعل الإشارات الضمنية التي تبثها فضاءات سردية العناوين الداخلية قد تراوغ بين اختيارين ليترك لنا المتن السردي بابا مواربا حيث المكوث في خانة "حديث الصمت" ليلتهم الغياب كل شيء. وهذا أنتج نسيجا عنكبوتيا واهنا بين أطراف "وضع آخر" واكتشاف أن العوالم متباعدة حتى بعد توحيد السرير!
منذ النص الأول "السر" وصولا لسردية النص الأخير"وضع آخر" ثمة تأكيد على نسج سردية ساردة متمكنة من أدوات بوحها وعلى اطلاع خفي ببواطن حكاياتها، لذلك لا غرابة أن تكون بطلة النصوص هي أنثى ترى وتحكي وتعبر عن خيبتها وخيبة شريكها الذكوري.
تعري الكاتبة مينة قسيري نسيجنا وأوهامنا في إيماننا بالآخر في لعبة الأبراج واختياراتنا، لنكتشف في نهاية النصوص أو نهاية الرحلة البشرية أننا مع الآخر الخطأ الذي كان بيته واهنا وأن ثمة برجا آخر فاق التوقعات والإيمان بصدق الحب والشريك والحياة. وأن صاحب هذا البرج قد دّكّ العش، المنزل ليقف كتلة صماء ليعبر عن ماهية برجه وطبعه ثقيل الروح كثقل فرد من أفراد برج الفيل!
وقد نتفق أو نختلف حول تجنيس هذا النوع السردي الجديد إلا أننا لا نستطيع منعه بل سيحتل مكانة ذات صدارة بمستقبل ثقافتنا الإبداعية الآنية والتالية، وبلا شك هذا سيحسب بشكل متميز للكاتبة المغربية مينة قسيري لاقتحامها هذا الدرب النثري وتغليفه بالهم البشري العربي.