الجنيه بين الماضي والحاضر والمستقبل!
أعتقد أنني وأبناء جيلي أكثر حظا من أبناء هذا الجيل، حيث ولدت في الأول من يناير عام ١٩٧٥، بعد انتصار أكتوبر ١٩٧٣ العظيم، والذي جعل لمصر قوة وقيمة عالمية علي المستويين السياسي والاقتصادي، ارتبطت بقوة كبيرة للجنيه المصري أمام كافة العملات الأجنبية، وللحق أشهد أن هذه المعطيات كانت سبب حقيقي في شعور السواد الأعظم من أبناء جيلي بالفخر والاعتزاز بمصريتهم، ومن ثم الانتماء والحب لوطننا الغالي، بل كان الدافع القوي خلف الحماس والنبوغ والتفوق، دراسيا ومهنيا!
أما الآن ومع هذه الوعكة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مصر منذ فترة طويلة، يشهد الجنيه المصري اتجاه تخفيض حاد، يعكس قوته أمام العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار الامريكي، ارتبط هذا التخفيض بتضخم غير مسبوق!
و لعل هذه الوعكة الاقتصادية الحرجة التي تعيشها البلاد وانتهاك قيمة الجنية المصري، سبب رئيسي في فقد الكثير من شباب هذا الجيل الثقة في المستقبل والبحث عن الهجرة وخلخلة أعمدة الانتماء بداخلهم، وقد يكون ضمن هذه الأسباب هو عدم معرفتهم بتاريخ الجنيه المصري، وفصوله المختلفة، وفي السطور التالية لمحات تاريخية لمحطات أساسية في تاريخ عملتنا المصابة بالوهن العضال!
بدأت رحلة الجنيه المصري بمرسوم صدر عام 1914 لاستخدامه كوحدة عملة رئيسية، طبعه البنك الأهلي في ذلك الوقت، وفى عام 1960 صدر قانون بإنشاء البنك المركزى المصرى ويمنحه صلاحية إصدار الأوراق النقدية المصرية، وفي نفس العام كانت قيمة الجنيه المصري من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث بلغت حوالي 3 دولارات أمريكية، كما كانت أعلى من الجنيه الإسترليني والعملات الأخرى المرتبطة به مثل الدينار الكويتي.
رحلة الجنيه والدولار
في عام 1963، انخفضت قيمة الجنيه لتصل إلى 2.3 دولار أمريكي (1 دولار أمريكي = 0.43 جنيه مصري)، واقتربت قليلًا من الريال العماني في ذلك الوقت، وظل الجنيه المصري ثابتًا لما يقرب من 10 سنوات حتى حرب عام 1973 حيث ارتفعت قيمته ليصبح الدولار يساوي0.38 جنيه، وانخفض إلى 0.39 جنيه حتى عام 1978 لكنه ظل أعلى من الجنيه الإسترليني.
في عام 1979 انخفضت قيمة الجنيه في ظل سياسة الانفتاح التي قررها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، حيث أرتفع سعرالدولار إلى 0.70 جنيه، وفقد الجنيه المصري ما يقرب من نصف قيمته حينها، حيث ضعف للمرة الأولى أمام الجنيه الاسترليني، وظل سعر الصرف مستقرًا حتى أوائل التسعينيات، ولكن تم تخفيض قيمته مع بدء برامج الإصلاح الاقتصادي في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، ليصل سعر الصرف إلى 1.5 جنيه للدولار في عام 1990.
في عام 1991 قفز الدولار ليبلغ 3.14 جنيه حيث استمرت قيمة الجنيه في التراجع حتى استقرت عند 3.39 جنيه للدولار في 1994-1998، وظل الجنيه أعلى من عملات الخليج مثل الريال السعودي والقطري، وكذلك الدرهم الإماراتي.
تراجعت قيمة الجنيه لتصل إلى 4 جنيهات للدولار عام 2002، وانهارت مع قرار تعويمه عام 2003 لتصل إلى أعلى من 7 جنيهات للدولارقبل أن تستعيد قوتها لتستقر عند 5.85 جنيهات، ولأول مرة، أصبح الجنيه أضعف من عملات دول الخليج العربي.
ثم جاءت ثورة ٢٥ يناير عام 2011، وانخفضت قيمة الجنيه عدة مرات مقابل الدولار إلى 6.1 و7.1 جنيه ثم 7.7 في عام 2015 - أقل من الكرونة الدنماركية ودولار هونج كونج والبوليفار الفنزويلي ودولار جزر سليمان.
في مارس 2016، تم تخفيض سعر الصرف الرسمي لتصل إلى 8.88 جنيه للدولار، ثم جاء قرار تعويم الجنيه المصري وتحديد سعر توجيه مبدئي بقيمة 13 جنيهًا للدولار، لتقترب قيمة العملة المصرية المتدهورة من الراند الجنوب أفريقي وأصبحت أضعف من الروبية السيشيلية!
استمر الجنيه المصري في التدهور أمام الدولار الأمريكي، الذي حقق قفزات قياسية ليسجل أعلى سعر مقابل الجنيه المصري في النصف الثاني من عام 2017 عندما قفز سعر صرف الدولار إلى نحو 19.60 جنيه مسجلًا بذلك مستويات قياسية وتاريخية في سوق الصرفالمصرية!
شهد سوق الصرف خلال عام 2018 حالة من الثبات والاستقرار، حيث جرى تداول الدولار عند مستوى سعر أقل بقليل من مستوى الـ18 جنيهًا، ليشهد العام 2019 موجة تراجع قوية للدولار الأميركي مقابل الجنيه المصري، حيث تم تداول الدولار في الوقت عند مستوى 15.97 جنيه، مقابل نحو 17.86 جنيه في نهاية عام 2018 وظل مستقرا عند هذا الحد حتي عام 2022!
وتحديدًا في يوم 20 مارس 2022، هبط الدولار بشكل كبير ليسجل حوالي 15.64 جنيه، قبل أن يرتفع مجددًا إلى 17.50 جنيه من نفس الشهر، وظل الدولار يرتفع أمام الجنيه حتى تاريخ 27 أكتوبر 2022، حيث تخطى سعره 23 جنيهًا، وحتي وقت كتابة هذا المقال يشهد الجنيه انهيار حاد أمام الدولار وكافة العملات الأجنبية المرتبطة به، حيث سجل الدولار 29.50 جنيه!
لقد رصدت لك عزيزي القاريء محطات هامة من ماضي وحاضر الجنيه المصري، ولكن الأهم هو المستقبل، والمستقبل لا يعلمه إلا الله وهو حتما وحقا بيد الله، وكل ما يدور بخاطري هو مجرد استنتاجات، لا أريد أن أذكرها حتي لا تكون سبب في أمل لن يتحقق، أو ظلام لنيكون!