تَجَسَّد من مريـم العذراء
يسوع، ابن الله صار ابن الإنسان، أي أنّ الله صار إنسانًا كي يصير الإنسان إلهًا. سرّ تجسّد الله هو سرّ عظيم يفوق إدراك العقل البشريّ، ولكننا نستطيع فهمه وإدراكه واختباره بفعل الروح القدس الذي وُهِبَ لنا بفعل تجسّد المسيح. يقول لنا القدّيس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية "فلمّا تَمَّ الزمان، أرسلَ الله إبنه مولودًا من إمرأةٍ" (غلاطية (٤: ٤).. مولودًا من مريـم العذراء (لوقا ٢: ٧).
ما هو ملء الزمان؟ لنستعرض الوضع الذي كان فيه العالم القديم زمن تجسّد الربّ يسوع. الله الخالق الكون بدقّة لا متناهية، إختار الزمان المناسب تمامًا لتجسّد ابنه يسوع. فلم يأتِ بعد الوقوع في الخطيئة مباشرة، ولا بعد الطوفان، ولا بعد الوصايا والعبور، ولا عند بناء الهيكل.. أتى عندما أصبح العالم جاهزًا لاستقباله بعد نبؤات الأنبياء في العهد القديم الذين مهدوا مجيء السيد المسيح ملك ورسول السلام.
في الظروف المناسبة للتجسّد اختار الله أن يُرسِل ابنه إلى العالم، وكذلك بنفس الدقّة اختار المكان والأشخاص: بيت لحم، المزوَد، الرُعاة، المجوس، زكريا، أليصابات، سمعان الشيخ، حنّة النبية، الملك هيرودس.. والأهم من كل ذلك إختار مريم العذراء ويوسف البار.
سلامٌ في السماء وعلى الأرض
اختار أكثر الأماكن فقرًا وتواضعًا، وأكثر الأشخاص بساطةً وطاعةً في ظروف شرسة وقاسية. للإحاطة أكثر بسرّ التجسّد لا بدّ من جولة في الكتاب المقدّس على التعابير والأفعال والكلمات التي عبّرت عن هذا السرّ، كما قال القديس بولس: "إنه لسر عظيم".. تجسّدَ أي صار جسدًا، أصبح لاهوت وناسوت في شخص واحد، إله وإنسان في شخص واحد، الكلمة صار بشرًا ولكنّه بقي كلمة الله.
أتى: مبارك الملك الآتي باسم الرّبّ، سلامٌ في السماء وعلى الأرض، ومجدٌ في الأعالي.. كان يلقّب المسيح "بالآتي"، "أأنتَ الآتي أم ننتظر آخر؟"، "مبارك الآتي بإسم الربّ". هذا يعني أنّه كان في مكان وأتى إلى مكان آخر. كان أزليًّا موجودًا منذ البدء وأتى إلى عالمنا.
ظهرَ: أي كان غير مرئيًّا وصار مرئيًّا، صار يُرى ويُلمس..
أشرق: مثل الشمس عندما تكون غائبة وتُشرق فنراها ونُعاين نورها وهي كانت موجودة دون أن نراها.
نزلَ: نقول نزل من السماء لا يعني أخلى السّماء فهو إله مالئ الكون بحُكم لاهوته بالتجسّد تنازل وأخلى ذاته (فيليبي ٢).
شاركنا اللحم والدم (عبرانيين ٢: ١٤): شاركنا المسيح لحمنا ودمنا بواسطة مريم العذراء التي أعطته هذا اللحم والدم بتجسده منها. فهي شريكة التجسّد وفخر جنسنا البشري. واحدة منّا أعطت الربّ لحمه ودمه من لحمها ودمها.
أخَذَ: آخذًا صورة العبد (فيليبي ٢: ٧)، أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. أخذ لحمنا ودمنا وطبيعتنا البشريّة وأعطانا روحه وطبيعته الإلهيّة. أخذ خطيئتنا وأعطانا قداسته. أخذ حُكم الموت عنّا وأعطانا الحياة الأبديّة. أخذ منّا العار وأعطانا المجد: "وحّدتَ يا ربّ لاهوتك بناسوتنا.. أخذت ما لنا وأعطيتنا ما لك".
دخل: كان خارجًا ودخل عالمنا من خلال مريم العذراء.
خلاص العالم
ولكن لماذا تجسّد ابن الله؟ ماذا أعطانا بتجسُّده؟
أعطانا:
* الخلاص: أتى إلى العالم ليُخلّص البشر وليُزيل حُكم الموت عن الإنسان. أتى ليُخلّصني أنا.
* معرفة الله: بالتجسّد صار الله مرئيًّا، مسموعًا، ملموسًا.. نتعرّف إليه ونعرف عنه، نعاشره ونختبره.
* البنوّة أو التبنّي: أصبحنا أبناء الله بالمسيح. هو الإبن الوحيد من جوهر الآب، نورٍ من نور، إله حق من إلهٍ حق، إبن الله أصبح إبن البشر فأصبحنا أبناء الله. فقد تبنّانا الله بإبنه يسوع. وبه ومعه إنتقلنا من العبوديّة إلى حريّة الأبناء.
* القداسة: قبل التجسّد كانت الطبيعة البشريّة فاسدة ومُلطّخة بالخطيئة، ولا يسكنها الروح القدس، وعندما أخذ السيد المسيح الطبيعة البشريّة، قدّسها وأصبَحَت مسكنًا للروح القدس.
تجسّدَ يسوع كي نأخذ الروح القدس وننطلق من البشارة إلى الميلاد والظهور والعماد والشعانين والموت والقيامة والصعود، لنصل إلى العنصرة اي حلول الرُّوح القُدُس على التلاميذ والإنطلاق بقداستنا وإيماننا نعلن البشارة والملكوت. مسيرة الرّبّ يسوع على أرضنا من أجل ان ننال الروح القدس، والروح القُدُس الذي حلَّ علينا يوم معموديتنا، بفضله أصبحنا هيكلًا ومسكنًا للروح القدس، وقدّيسين نحمل ملكوت الله في داخلنا.
التصالح مع الذات
* أخذَنا إلى عالمه: جاء إلى عالمنا ليأخذنا إلى عالمه أي يرفعنا إلى السماء.
* إظهار حقيقة الإنسان كما أراده الله: بالتجسّد أعطانا يسوع الصورة الحقيقيّة للإنسان الكامل كما أراده الله عندما خلقه وقبل الخطيئة. فهو آدم الجديد الذي بواسطته عرفنا كيف يكون الإنسان الكامل بدون الخطيئة.
* المشاركة: شارَكَنا الله في طبيعتنا، عاش كلّ ما نعيشه في أيامنا هذه، أحسّ بكلّ ما نحسّه، عانى كلّ ما نعانيه من ألمٍ وجوع وعطش وحزن وفرحٍ.
بتجسّده قدّس المسيح حياتنا البشريّة: أكلَ وشرب وعمل ونام وجاع وعطش وبكى وتألّم، قدّس حياتنا بكلّ تفاصيلها أرانا كيف نكون كاملين لنقتدي به. علّمَنا كيف تكون الحياة بالقداسة والنعمة. أتى ليُخلّصنا ويُعلّمنا. أتى لينجيّنا من الموت ويحررنا من الفساد والعبوديّة. أتى وصالَحَ الأرض والسماء، هذا هوَ الإله الذي ينتمي إلى السماء، والإنسان الذي ينتمي إلى الأرض هوَ واحد مع الآب بطبيعته الإلهيّة وواحد معنا بطبيعته البشريّة.
جاء إليّ ليُخلّصني أنا الخاطئ ويَجعلني إبن الله. فعِيد الميلاد هو عيدي أنا، أُعيّد فيه بنوّتي ومحبتي، خلاصي وحريّتي، أُولَدُ (أنا) من جديد بالروح القدس والحق، والنعمة التي تجعلني إبنًا لله، على صورة إبنه الوحيد.
في هذا اليوم الأغرّ، نطلُب من الله أن بباركنا، ويغفر لنا كلّ مرّة نبتعد من العيد، أو نفسده بأنانيتنا واللامبالاتنا. وأعطنا يارب، يا ملك السلام والعدل، أن نتصالح مع ذواتنا أوّلًا، فينعكس ذلك سلامًا حولنا، وتصبح عائلتنا مغارةً تستقبلك فيها، ومنارةً تشعّ دفئًا من دفئك، وحنانًا من حنانك، ويصير لنا كلّ يوم تذكار ميلادك.
إخوتي الأحباء: أهنّئكم جميعًا بعيد الميلاد المجيد وبالعام الجديد ٢٠٢٣، وأطلب منكم أن نرفع الصلاة معًا لأجل رؤساء وملوك وحُكّام العالم، وفِي مقدّمتهم السيد عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، وحكومته الرشيدة، ليعملوا على نشر السلام والوئام بين الشعوب، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيدة السلام وسلطانة العالم، والقديس يوسف شفيع العائلات.
قدَّسكم إله وملك السلام نٓفْسُه تقديسًا تامًا وحٓفِظكم سالمين روحًا ونفْسًا وجسدًا (تسالونيقي الأولى ٥: ٢٣ )، محبّتي لكم جَميعًا في المسيح يسوع (قورنتس الأولى ١٦: ٢٤)، المسيح ولِدَ فمجدوه، هللويا، هللويا، هللويا، وكُلُّ سنة وانتم سالمين.
* أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك