أحمد فؤاد نجم، تفاصيل اليوم الأخير في حياة الفاجومي
يعرف الرأي العام عن شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم وجهًا واحدًا، وهو وجه الشاعر الجريء الذي لا يخشى في قول الشعر أحدًا، أو ذلك الشخص المتفلت الذي يقول ما لا يخطر على بالك في اللقاءات الصحفية والمقابلات التليفزيونية، أو ذلك الإنسان الذي يعيش حياته طولًا وعرضًا دون أن يأبه بشيء..أي شيء، كما الرعيل الأول من الشعراء.
"الفاجومي"- الذي حلت ذكرى وفاته التاسعة مؤخرًا ويقام حفل توزيع جوائزه مساء اليوم- كان شخصية متفردة في كل تفاصيلها، الجرأة المطلقة عنوانها: قِدِرت أقول كلمتى بالصوت العالى/ ورِزقى على اللى رازق الدودة فى بطن الحَجَر/ لأن الشِعر رَبَّانى وعلّمنى: لا أبلع لسانى، ولا أَجِّز على سنانى/ ولا أدهن الكلام ألوان/ ولا أقول للقرد: يا قمر الزمان!
"نجم"-الذي عاش 84 عامًا، قضى معظمها فقيرًا مسجونًا مطاردًا ولم تبتسم له الدنيا إلا قبيل الرحيل- حافظ حتى الرمق الأخير من حياته على مبادئه الراسخة، سلاحه في ذلك أشعار لا تعرف المواءمة وكلمات لا تجيد المناورة، بل ظل صادقًا فى هجائه، وصادقًا فى مديحه، ولم يخضع مثل غيره؛ رغبة في سيف المعز وذهبه، شعاره في ذلك: وإيه يعنى شوية ضرب، وشوية بهدلة، وشوية حبس، بس كنت بقول اللى عايز أقوله وأرتاح؟!
كان "نجم" صوت مصر وسوطَها، صوتها الواثق القوى الحر المُعَبِّر عن الغلابة والمُتَّيمين بعشقها، وسوطها الذى تُلهب به ظهور الظالمين وأقفيتهم، كما كانت حياتُه تراجيديا كاملة وسبيكة فريدة من الوطنية والمقاومة والموهبة والصعلكة والسجن.
أمَّا قصائد "نجم" فكانت وقودًا للثورة على الظلم والخنوع والضعَة وباعثةً للأمل فى كل البلدان العربية.كانت ولا زالت عابرةً للزمان والمكان تأتينا ساخنةً وطازجةً كأنها مكتوبةً قبل ساعات. عاش "نجم" حُرًا ومات حُرًا، وبين الحياة والموت ظل حسن الظن بخالقه: "مالكومش دعوة باللى بينى وبين ربّى.. هو عارف إنى بحبّه.. وأنا عشمان إنه يدخلنى الجنة"، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الوجه الآخر للفاجومي، الذي لا يعرفه أحد، وهو الجانب الإنساني الممزوج بالجوانب الدينية والأخلاقية حتى لو ظلت خبيئة داخل صدره ولم يسعَ إلى المتاجرة بها، وهذا ظهر في الساعات الأخيرة التي سبقت رحيله، وتحديدًا في الثالث من ديسمبر العام 2013.
في صباح اليوم المذكور..استيقظ "نجم" من نومه، ثم اتصل بصديق مقرب، وطلب منه أن يمر عليه بضاحية "المقطم" حيث كان يعيش. سرعان ما حضر الصديق، وكان قلقًا على "نجم" الذي طلب منه أن يرافقه إلى البنك الذي يودع فيه ماله. وفور وصوله إلى مقصده.. استعلم "نجم" عن رصيده الذي تجاوز حاجز المليون جنيه؛ لا سيما وأنه كان قد فاز قبلها بأسابيع قليلة بجائزة "الأمير كالاوس"، وبلغت قيمتها 100 ألف يورو. طلب "الفاجومي" من الموظف المختص أن يضع المليون جنيه بالكامل في حساب مستشفى علاج سرطان الأطفال، حيث قال له: "حط الفلوس دي في المستشفى اللي بتعالج العيال الغلابة من السرطان"، ثم طلب منه أن يوزع ما تبقي بالتساوي على بناته:" نوارة" و"زينب" و"أميمة"، ثم سحب خمسة آلاف جنيه فقط ودسَّها في جيب جلبابه الذي لم يتخلَّ عنه حتى مماته.
عندما همَّ "نجم" بمغادرة البنك، صافح موظف الأمن ومنحه خمسمائة جنيه، وكلما لمح أحدًا في الطرق كان يمنحه بعضًا من المال، وظل يمنح كل مَن يقابله قائلًا له: "خد دول، هات حاجة لولادك"، ثم استوقف سيارة أجرة وعاد بها إلى البيت، وكانت أجرة التاكسي لا تتجاوز خمسين جنيهًا، غير أنه أعطى السائق ما تبقى في جيبه من مبلغ الخمسة آلاف جنيه، فاندهش السائق التاكسي وسأل "نجم": ما هذا؟ فردَّ عليه: "ده رزق العيال"، وبعدها بساعات قليلة..فاضت روحه إلى بارئها، مختتمًا حياته بأحسن ما يكون الختام..نهاية يستحقها إنسان عاش مدافعًا عن الفقراء والغلابة و المستضعفين والمقهورين.