رئيس التحرير
عصام كامل

عبد السلام بن مشيش.. القطب الشهيد

قال عنه شيخ القراء والمحدثين ابن عياد الأندلسي: "كان مقامه في المغرب كمقام الشافعي في مصر". وقال عنه صاحب الدرر البهية: "هو القطب الأكبر، والعلم الأشهر، والطود الأظهر، العالي السنام.. وهو البدر الطالع، الواضح البرهان، الغني عن التعريف والبيان، المشتهر في الدنيا قدره، والذي لا يختلف في غوثيته اثنان. سرى سره في الآفاق، وسارت بمناقبه الركبان والرفاق، وقصده للانتفاع به أهل السعادة. وكان، رضي الله عنه، في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية".

 

يعتبر الشيخ عبد السلام بن مشيش من كبار الأولياء والصالحين بالمغرب، ويعود نسبه إلى بن حيدرة بن محمد ين إدريس الأكبر، بن عبد الله الكامل، بن الحسن المثنى، بن الحسن السبط، بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

عبد السلام بن مشيش.. القطب الشهيد

في مقدمة كتابه "القطب الشهيد سيدي عبد السلام ابن مشيش"، آخر كتاب أصدره الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الشريف الأسبق، رحمه الله، يشرح الدافع إلى الكتابة في هذا الموضوع فذكر انه أبدى رغبته لزيارة مقام هذا القطب أثناء حضوره للمغرب بدعوة من الملك الحسن للمشاركة في الدروس الحسنية..

وقد حقق له الملك هذه الزيارة التي كانت حافزًا قويًّا للعزم على الكتابة عن ابن مشيش، خصوصًا أنه سبق له أن كتب عن الإمام الشاذلي، ثم لأن الكتابة عن ابن مشيش ضرورية بالنسبة لمن يكتب عن المدرسة الشاذلية على وجه العموم، ولمن يكتب عن الإمام الشاذلي رضي الله عنه على الخصوص، باعتبار هؤلاء الامتداد الموفق للتيار الصوفي النقي الصادق الذي رسمه القطب الشهيد. 

فمن هو عبد السلام ابن مشيش أو ابن بشيش، كما اختار له شيخ الأزهر من أسمائه الواردة في الوثائق؟

هو عبد السلام بن سليمان المعروف بمشيش بن أبي بكر بن علي الذى يعود نسبه إلى سيدنا على بن ابى طالب، ولد سنة 559 هـ 1198م، بقرية الحصن من جبل العلم بإقليم تطوان بالمغرب، واستشهد بها عام 623 هـ ـ 1226م، وقبره يقع وراء قبر أبيه داخل الروضة بقمة جبل العلم قرب مدينة الشاون بالمغرب.

تعلم على جماعة من أساتذته؛ أبزهم أبو عبد الرحمان العطار، وهو أيضا عمدته في التربية والسلوك، يتصل بأئمة التصوف من المشارقة والمغاربة وبمدارسهم.

شخصية ابن مشيش

الشيخ عبد الحليم محمود بلور شخصية ابن مشيش في مدرسته، وفي تلميذه الكبير أبي الحسن الشاذلي، فأوضح أن هذه المدرسة هي الامتداد الحقيقي لمعرفة ابن مشيش باعتباره الامتداد الموفق للتيار الصوفي النقي الصادق الذي رسمه رضي الله عنه، مؤكدا أن هذه المدرسة هي منهج الإمام الشاذلي.. 

خصوصا عندما يؤكد علميا بأن له طرقًا، وليست له طريقة، لأنه كان مبتعدا عن الناس، لا يعطي عهودا ولا يكلف أورادا ولا أحزابا، فلم يؤسس طريقة، وإنما كان يرسم في كل لحظة من لحظات حياته الطريق، وطريقه هو الطريق الشرعي باختياره الخاص الواضح المعالم والأهداف، والذي حافظ على وضوحه حتى الآن.. 

وإن تربيته للشاذلي من كبرى كراماته، رحمه الله. فأبو الحسن أتباعه بالملايين، في مشارق الأرض ومغاربها، وطريقته تقوم على العلم، وتلتزم الشريعة. وأتباعها يلتزمون الجهاد إذا دعا الداعي، مثلما فعل الشيخ الشاذلي في معركة المنصورة، التي كللها الله بنصر مؤزر. وهم في ذلك كله، يقتدون بسنة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

وجوهر هذا الطريق ـكما يقول المؤلف ـ هو الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله، وسلم بعد الانتهاء عما نهى الله عنه، والقيام بما فرض الله تعالى.

ومن جهة أخرى، فإذا كان الشيخ عبد الحليم محمود قد حاول أن يقدم شخصية ابن مشيش، فإنه لم ينس أن يسر ببعض الفيوضات الصوفية الرائعة، ويقدمها في مفهوم علمي صرف يزيل عنها الغموض الذي يحتاج إلى شروح وحواشي.. 

وصايا ابن مشيش

فروى لنا في نفس الكتاب عن ابن الحسن الشاذلي أن شيخه ابن مشيش خاطبه، قائلًا: يا “أبا الحسن”؛ إنك إذا أردت أن تسأل الشيخ عن اسم الله الأعظم ليس الشأن أن تسأل عن اسم الله الأعظم، إنما الشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم، يعني أن سر الله مودع في قلبك..

وأوصى ابن مشيش الشاذلي بقوله: "لا تصحب من يؤثر نفسه عليك فإنه لئيم، ولا من تؤثر نفسك عليه فإنه قل ما يدوم، واصحب من إذا ذكر، ذكر الله فالله يغنى به إذا شهد، وينوب عنه إذا فقد، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتيح الغيوب".

وأوصاه أيضًا: “اهرب من خير الناس، أكثر مما تهرب من شرهم، فإن شرهم يصيبك في بدنك، وخيرهم يصيبك في قلبك”.

إرجعوا إلى الله في أوائل التدبير والتقدير، تحظوا منه بمدد التيسير، ويُحال بينكم وبين التقصير.. وكل ورع لا يصحبه العلم والنور فلا تعد له أجرًا، وكل سيئة يعقبها الخوف والهرب إلى الله فلا تعد لها وزرًا.. 

وعن مسيرة ابن مشيش، فقد تعلم في الكتّاب فحفظ القرآن الكريم وسنه لا تتجاوز الثانية عشرة ثم أخذ في طلب العلم. وكان ابن مشيش شخصا عاديًّا يعمل في فلاحة الأرض كباقي سكان المنطقة ولم يكن متكلًا على غيره في تدبير شئون معاشه.

تزوّج من ابنة عمه يونس وأنجب منها أربعة ذكور، هم: محمد وأحمد وعلي وعبد الصمد وبنتا هي فاطمة. 

وفاة الشيخ ابن مشيش

 

ولم يكن الشيخ بن مشيش منقطعًا للعبادة كما يرى البعض، بل الظاهر من خلال أعماله أنه قسم حياته إلى ثلاث مراحل؛ أعطى المرحلة الأولى للحياة العلمية، وأعطى الثانية للانشغال بالأولاد والجهاد، وخصص المرحلة الثالثة للعبادة، حيث اختار المقام في الجبل في قرية "أدياز الفوقاني" حتى مات شهيدًا.

كان ذا جد واجتهاد ومحافظة على الأوراد الصوفية. من مشايخه في الدراسة العلمية العلامة الشيخ أحمد الملقب (أقطران)، وهو دفين قرية أبرج قرب باب تازة، ومن مشايخه في التربية والسلوك عبد الرحمن بن حسن العطّار الشهير بالزيات، الذي أخذ عنه علوم القوم التي مدارها على التخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وآله، وسلم، فنال من ذلك الحظ الأوفر.

خرج الشيخ عبد السلام بن مشيش من خلوته ذات يوم ليتصدى لابن أبي الطواجن الكتامي، الذي ادعى النبوة، وأتى بحيل ماكرة لكي يظهر وكأنه صاحب معجزات، وبدأ الناس في تصديق سحره فاتبعوه، فعاثَ في الأرض فسادًا، فغلبه القطب بالمنطق والأدلة الدينية، وثار عليه ووقف في وجه المنكر..

 

 

فلم ينفع معه الترغيب والترهيب، مما جعله هو وأتباعه يخططون ويدبرون مؤامرة لقتله، حيث تصيدوا له حتى ينزل من خلوته للوضوء لصلاة الصبح فقتلوه سنة 622 للهجرة، رحمه الله. وضريحه يوجد بـجبل العلم (شمال المغرب)، وهو جبل كان يتعبد فيه ويخلو بربه، ويعتبر من أهم المزارات حتى الآن.

الجريدة الرسمية